“أوهام شرقية”..الإبداع خارج النمطية النسوية
تفاجئنا الكاتبة لنا عبد الرحمن، عبر مجموعتها القصصية ” أوهام شرقية”، بمحاولة جدية ورصينة للكتابة النثرية خارج إطار النمطية النسوية المعهودة، فتقدم لنا عملا رشيقا، حيويا، ذا جدة مضمونية أكيدة وأسلوبية خاصة لا تخفي. إنه عمل نثري يعتمد بشكل أساسي علي الاقتصاد الصارم في الكلمات والتصوير المشهدي، والعبور إلي موضوعات بدت وكأنها محرمة علي الكاتبة “الأنثي ” وحكرا علي الكاتب “الذكر”.
لقد ترسخت – أو تكاد- تلك النمطية خاصة بالكتابات النسوية، نثرا وشعرا، وصار لها مواصفاتها وأسماؤها. وإذا ما حصرنا الرؤية في النثر ضمن تلك النمطية، فسنجد أن هناك اختلافات ثانوية في اللغة والاهتمامات والمضامين وطريقة طرحها والسردية المعتمدة من كاتبة إلي أخري غير أن هناك تيمات محددة -إلي هذه الدرجة أو تلك – تسم بميسمها الكتابة النثرية العربية النسوية كالركون إلي البوح الإنشائي السيّاح، والجملة المتعضلة والمثقلة بالجناسات والتوريات الذكورية الرنانة ، ولكن المقلوبة رأسا علي عقب، ومن ذلك النوع الذي يكثر في قصائد البدايات للراحل نزار قباني مع الفارق !
إضافة إلي معاقرة المضامين المتكررة في الميلودراما التلفزيونية المصرية المسرودة بالاسترسال الأشبه بالنواح، و في حالات نادرة مقاربة نوع من الإيروتيكية الفظة والمفتعلة والمحشورة حشرا ودون مبرر سردي أو مضموني في النص. أما التقارب في مضامين تلك الكتابات النمطية النسوية فهو أكثر وضوحا من التقارب الأسلوبي مما يجعل أغلب الأعمال في النثر القصصي أو الروائي أقرب إلي أعمال كتبها رجال بأصابع أنثوية يمكن الإتيان بأمثلة كثيرة ومعروفة علي الانتشار الواسع لأعمال هذه الكاتبة أو تلك، وهو انتشار يظل محدودا وهامشيا أو نخبويا إذا ما قيس إلي حجم الكتلة القارئة المفترضة في العالم العربي ذي المائتين مليون إنسان وأكثر، غير أن الجوهر الذي نحاول مقاربته عبر هذه الملاحظة النقدية يظل واحدا سواء جاء العمل موقعا باسم كاتبة مغاربية أو خليجية أو شامية.
ومع ذلك، فثمة محاولات أخري حاولت بجد، وتحاول بذات الجد، الخروج علي هذه النمطية الأنثوية التي غدت أقرب إلي الأمر الواقع الذي تواطأ عليه السائد النثري إبداعا ونقدا دون قصد أو رصد.
من تلك المحاولات التي يمكن التوقف عندها بجدية مجموعة الكاتبة “لنا عبد الرحمن ” والتي – كما أسلفنا- تحمل عنوان ” أوهام شرقية “.
يمكن أن يأخذ المرء فكرة مقنعة، أو دليلا متماسكا، علي عمق الجدة المضمونية التي أشرنا إليها من خلال أمثلة عديدة طرقتها الكاتبة : ففي أولي قصص المجموعة والتي تحمل عنوان ” ثلاث ساعات قبل الرحيل ” تشهد الشخصية المحورية فضيحة مأساوية حين تتخلي أمٌّ بيروتية عن رضيعها وتقذف به إلي إحدي حاويات الفضلات ! وفي ختام القصة لا تتمكن بطلتنا الشاهدة علي تلك ” الجريمة ” التي غدت تقليدية في العواصم والمدن العربية الكبري في عصر العولمة، من التخلص من مأزق وجوب دفع أجرة “قراءة البخت” للساحرة “أم علي ” والتي قادها إليها سوء الطالع والإرهاق إلا بأن تسلم السلسلة الذهبية المزينة بخريطة فلسطين علي رقبتها عوضا عن الدولارات المطلوبة. تلك السلسلة التي كان “يوسف” – الذي جاءت تبحث عنه في بيروت فأضاعت أي أثر له – قد أهداها لها في زمن مضي وانقضي.
لا غَرو بأن هذه العقدة المضمونية محملة بالدلالات والرموز، وتلك ليست علامة الجدة التي أردنا التوقف عندها، فثمة أعمال كثيرة مشبعة بالدلالات ولكن العلامة إنما تكمن كما نعتقد في النوعية القوية والملامسة لسقف الفضيحة لتلك الدلالات والرموز.
أما في ثانية قصص المجموعة، والتي تحمل عنوان ” امرأتان ” تعالج الكاتبة مسألة شديدة الحساسية والقسوة والأهمية ألا وهي قضية الإذلال الجنسي الذي تعاني منه الزوجة علي يدي زوج ذي نوازع سادية تبلغ درجة الاستمتاع بعذاب زوجته حين تثور عليه بعد برود فيصارحها بأنها تكون أفضل بهذه الصورة من أن تكون قانعة، راضية، وعادية (برودك واستسلامك، ثم ثورتك وصراخك مصدر سلوي لي. .كيف كنت سألهو لو كنت قانعة راضية بحياتك ؟كنت سأجدك مملة. ) يقول الزوج !
أما في نص ” مرايا مكسورة ” فترتقي “لنا عبد الرحمن” بمحاولتها عاليا حين تتابع بشجن شفيف، ودقة وصفية ملحوظة، مسيرةَ طالبةِ كلية الطب المعوزة التي تجد نفسها تهبط رويدا رويدا بفعل الحاجة المادية إلي العهر الجنسي مدفوع الثمن مع رجل مسن وعاجز جنسيا يجد لذته في أن يتفرج علي “ذكر مأجور” يمارس الجنس مع تلك الطالبة الفقيرة ثم، وحين يمل منها بعد زمن، يهديها لابنه.
ضربة مبضع رشيقة أخري تقوم بها “لنا عبد الرحمن ” علي الجسد المتعضل للعالم الذي أرادت تشريحه نجدها في قصة “امرأة فاضلة ” فالزوج يتخذ دور الهامز الذي يهمز الزوجة نحو السقوط بعجزه وانحطاطه وإدمانه علي الكحول والمخدرات حيث يبلغ الأمر درجة مريعة حين يعود ذات ليلة مع صديق له ويحاول إجبار زوجته علي أن تخلع ملابسها لكي يثبت لصديقه أن ثمة “خالا ” علي عضوها الجنسي كما قال له قبل قليل و إنه ليس كاذبا! وثمة هنا مجازفة مضمونية تدل علي شجاعة نوعية في التطرق والطرق يمنحها تفردا كونها جاءت من كاتبة شديدة العفوية والرصانة في آن واحد لا من كاتب يتنطع “لفتوحات ” خارقة ومفتعلة. .
وقفة أخري لا تبتعد عن محور الاضطهاد الإيروتيكي مع قصة ” الكنار مازال يغرد ” حيث نقرأ نصا قلقا وحزينا عن اغتصاب “موحا ” الفتاة المراهقة والمقطوعة الجذور والتي لا أهل لها وتعمل خادمة في بيت رجل من الطبقة الوسطي ويغتصبها ابن سيد البيت بشكل بهيمي ويتركها تعاني من نزيف مستمر لا تفهم الضحية عنه شيئا.
إن البشر الذين تكتب عنهم “لنا” ليسوا خارج الشرط الوجودي الإنساني المتعين مجتمعيا وتاريخيا، ولا هم ملوثون بخطيئة أصلية ما، بل هم بشر عاديون بائسون حينا وسعداء متفائلون أحيانا، بكل خيرهم وشرهم، بصعودهم وانحدارهم ولكنهم بشر معاصرون. صحيح أن ثمة انحياز نسوي في العمق المضموني لموضوعات الكاتبة ولكننا قد نجد تفسيره في مصادفة تتالي النوعية المضمونية للنصوص وليس في وجهة نظر أيديولوجية مسبقة هي أبعد ما تكون عن كاتبة مثل ” لنا عبد الرحمن ” تعتمد البساطة والعفوية المهندسة بشكل جيد. إن صاحبة “أوهام شرقية ” تكون قد أكدت في هذه المجموعة القصصية أسلوبيتها الخاصة وأدائها النثري ونجحت في أن تضفي ضبابها الشخصي والخاص والذي يمنح نصها نكهة شديدة الخصوصية، نكهة تذهب بعيدا في النوع النثري فتجعل الكاتبة أقرب إلي الروائية الواعدة منها إلي كاتبة القصة القصيرة المتمرسة، الأمر الذي لم يعد بعيد المنال اليوم وقد أنجزت الكاتبة روايتها الأولي وتعكف علي وضع لمساتها الأخيرة عليها.
كلمة أخيرة بخصوص بنية الجملة النثرية لدي الكاتبة، والتي تستأهل وقفة خاصة لتفردها، فهي كما أسلفنا تعتمد الاقتصاد الصادم في الكلمات إلي درجة تحل معها الكلمة المفردة أحيانا كثيرة محل الجملة أو العبارة النثرية وتأخذ مكانها ووظيفتها ، ويُلاحَظ أيضا اعتماد الكاتبة علي الجمل الاسمية الخفيفة، وغير المثقلة بأدوات التوكيد كما اعتاد أن يفعل كتاب وكاتبات آخرون. إن هذه الهندسة الأسلوبية، أو الرياضة النثرية تظل جنينا واعدا ولكنها ترتقي لدي “لنا عبد الرحمن ” في أعمالها الأحدث والمتأخرة علي مجموعة “أوهام شرقية “كما في نصها القصي الجميل ” عنب أحمر لهذا المساء ” فيتحول السطر النثري إلي سلسلة مصاغة بدراية وحرفية عالية من مفردات مستقلة بذاتها إنما يربط بينها شيء خاص، شيء خاص جدا، قد يعطي لهذه الكاتبة الشابة والواعدة هويتها النثرية الخاصة.
علاء اللامي