أوهام شرقية:صرخة في زمن الرماد

 

 

 

هذه قراءة في أجواء /أوهام شرقية/:يتناسل الوهم من رحم الحقيقة في قصص (لنا عبد الرحمن) وبخاصة في قصة (ثلاث ساعات قبل الرحيل) و(حب شرقي) لكن الولادة موجعة ولا تأتي بشيء، فقد خسر الإنسان عرش انسانيته ورمى بالبراءة في حاوية الفضلات.

قصص (لنا عبد الرحمن) شأنها الأول والتالي: ان توقظ الدم ثانية في الجسد الفاقد الحياة، عساها، وربما ترجو (هي) ذلك، لو أنها تتمكن من إعادة نبض الحياة الى الأجساد والأرواح، لكنها تكتشف بعد كل قصة قصيرة تكتبها ان الوهم ما يزال أكبر منها وأنها لن تحصد في نهاية المطاف غير البقاء على أطلال قصر كان شامخاً ذات يوم في تأريخ النقاء ونكران الذات والمروءة.

تشتبك الكاتبة مع نفسها في صراع يشبه الحرب، تحاول أن تأخذ كل شيء من البطل الماثل فوق الأوراق، لكن الحرب ترفض ان يكون ثمة خاسر بين الطرفين (هي ونفسها في الوقت ذاته) لهذا تستعين بفكرة (ميلان كونديرا) حين يقول: لا يمكن للإنسان أبداً ان يدرك ماذا عليه ان يفعل لانه لا يملك إلا حياة واحدة، لا يسعه مقارنتها بحيوات سابقة ولا إصلاحها في حيوات لاحقة، كل شيء نعيشه دفعة واحدة.

والحياة كما تبدو في هذا الكتاب الصغير (73 صفحة) ليست اكثر من (مرايا مكسورة) والحقائق فيها مضحكة جداً، وكذلك أسماء البشر التي لا تلائم معناها، وهي بالتالي (لعبة دوائر وكل دائرة تفضي إلى دائرة أخرى) ص38 والناس جسور نعبر عليها حتى نحقق رغباتنا أو نحقق عبرهم طموحاتنا مهما كانت الخسائر (خسائرهم طبعاً، دون ان ننتبه إلى أنها خسائر في الوقت نفسه)

الكاتبة تفهم لعبة النفاق التي يمارسها الجميع (مع) الجميع، لكنها لا تلعب مع القصص لعبة الطبيب النفساني بل تترك غسيل البشر على حبال نراها عن قرب وقد نخجل مما نرى أو نلعب اللعبة نفسها ونستمر (عراة) في متاهة المرايا التي كشفت عري أجسادنا على شظاياها المتناثرة ثم نقول همساً مع أنفسنا ونحن نخدعها أو نواسيها أو نضحك عليها:

ـ يا لهذا الثوب الذي ما يزال أبيض لامعاً.

مع أننا حين نكون وحدنا ندري كيف تحول ذاك الأبيض اللامع الجميل إلى كفن يمشي على قدمين والغريب ان لا أحد يلتفت إليه ولا يخاف منه!

حتى مدرسة (العلم والفضيلة) صارت طعاماً للسمك المسعور ـ هل من سمك مسعور في بحر الحياة؟ ـ نعم ثمة سمك كبير مفترس، وسمك أكبر وأكثر افتراساً، لكن الحيتان هي التي تأخذ نصيبها الأوفر من أوهام الفضيلة بحجة العلم والتنوير، وذلك يعني ان العالم لم يعد صالحاً للسكنى، فها هي المرأة المغلوب على أمرها، زوجة الرجل السكير المدمن تضع نفسها وجسدها و مبادئها القديمة في خدمة مدير المدرسة، إذ ليس من حلّ آخر حتى تحافظ على بيتها وبناتها، ذلك ان مدارس الفضيلة والعلم تحمل عناوينها للتمويه، أما الحقيقة التي تكمن وراء سياج المدرسة فهي حالة من حالات (الرقيق الأبيض) الذي يباع ويشترى في وضح النهار وربما على مرأى من التلاميذ الصغار وهم ينهلون العلم والفضيلة من أفقر الناس علماً وأقلهم حرصاً على الفضيلة، انه مسلسل طريف آخر من أوهامنا الشرقية، لكنه المسلسل الوحيد الذي لن ينتهي مهما طال زمان البث الأرضي!

هل الزواج (خدعة حتى تستمر البشرية)؟ كل شيء معقول ما دمنا نفكر فيه بلا رقابة ودون خوف، ثمة أعراف وقوانين حكمونا بها دون حق، ثم يأتي من يؤكد ضرورة التمسك بها دون اعتراض وبلا شكوك، وأرى ان مهمة الكاتب المبدع هو ان (يفتت) الحجر وأختام القوانين القديمة ونقوش المسلات البالية ليكتب قانونه الذي يؤمن به، وفي قصة (حب شرقي) يتم التأكيد على ان الزواج علاقة شبه مؤسساتية خادعة من اجل قيام أسرة وتربية أطفال وفرض قيود حتى لا يتحرك البشر خطوة أبعد مما هو (مسموح) به، ولكن على الجانب الثاني من شاطئ الرقابة تقول بطلة القصة:

ـ داهمني إحساس بالفرار من عصر الحضارة والتكنولوجيا، من عصر الحروب والمجاعات، تمنيت لو أبقى في هذا الركن وان ينساني التأريخ. صفحة 55.

يبدو ان البراءات تمضي عن الأرض، تغادرها إلى غير رجعة، لكن البراءات برغم ذلك لم تزل في زاوية مجهولة من النفوس، هذا ما تكشفه قصة (تقمص) حيث تموت الطفلة رسمياً في البيت، لكنها هي نفسها ترى كل شيء (أمي بدأت تنتحب، وجه أبي يغدو شاحباً وهو يمد يدي إليه يقيس نبضي، يضع رأسه على صدري يصغي إلى دقات قلبي، غريب، أنا لا أسمع دقات قلبي) ص50.

قصص (لنا عبد الرحمن) تغوص في عالم المرأة، تكشف المستور من العادات والتقاليد والطقوس الحياتية اليومية، كشف دائب وعميق لا حدود تمنعه من الصراحة والجرأة واقتحام اللامألوف إلى أقصى ما تفعله المرأة حين ترى في الكتابة مهنتها الأولى، وهي اسم يضاف بقوة إلى كاتباتنا العربيات المبدعات، مؤكدين على الضوء الذي ينبثق من هذه القصص العشر التي تأتي بالأوهام الشرقية عنواناً ذكياً لجمهورية من الرحيل والهروب والتقمص والاغتصاب والخوف والخسائر والتنازلات، ولعل أكثر ما يوجع في زمانها ومكانها أنها خسائر بالجملة وليست بالمفرد، أعني خسائرنا في الزمان الذي نحن فيه، وأيضاً، على المكان الذي ولدنا فوق تربته.

كم هو موجع ان تشعر على حين غفلة: انك في الزمان الخطأ، وان المكان الذي أنت فيه لم يعد يتسع لشخص مثلك!!

وإذا ما ظننت العكس، فما عليك سوى الجلوس تحت خيمة أوهامك الشرقية حتى مغيب الشمس!

عبد المنعم حوا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى