أوهام شرقية .. وسلطة الذاكرة الأنثوية

 

تحاول “لناعبدالرحمن” في مجموعتها القصصية الأولي “أوهام شرقية”القبض علي تفاصيل يومية لمعيش ممهور بغربة وقلق العالم، حيث تنسج من تلك التفاصيل محكيات تمارس فيها الذاكرة الأنثوية سلطتها واقترابها من التخوم ومن ممكن المستحيل. وبالرغم من المسحة الواقعية التي تتسربل بها أحداث قصص المجموعة، فإن مسألة الوعي بالعالم في المجموعة، تستدعي تأملا خاصا لمظاهر غربة الذات وقلقها اليومي، غربة في اللقاء مع الرجل قرب علي بعد، وبعد علي قرب، وتقلبات عاطفية ومزاجية تحيل علي معاناة شخصية محورية هي الساردة “الأنثي” في أغلب قصص المجموعة، معاناة يومية، تتسع لتسبر أغوار ذاكرة الجرح، جرح العلاقة مع الذات ومع الآخر، مما يضفي علي المجموعة طابعها الإنساني العميق، المسترفد من التجربة والمعاناة وخصوصية النظرة للعالم، وهو ما يمنح المعني لقصص “لنا عبد الرحمن”، ويدفع بالقراء إلي استمتاع لذيذ بعوالم حكائية يمنحها فضاء بيروت طراقئها، كما تمنحها طرائق بناء التفاصيل، وتشكيل العوالم، قدرة متميزة علي التماسك في البناء ولحم التفاصيل وتكوين مخيلة أدبية تحفل بإشراقات الذات الأنثوية، علي ما هي تعانيه من جرح واغتراب. تتكون المجموعة من عشر قصص، هي: ثلاث ساعات قبل الرحيل، امرأتان وعاشقة، المعبر، الهارب، مرايا مكسورة، امرأة فاضلة تقمص، حب شرقي، صورة مشروخة، الكنار ما زال يغرد. ولعل الناظم بين هذه القصص، هو ارتباطها بالذات كمعني للوجود، وكاستغوار لخبايا هذه الذات، يتمظهر بمظاهر المعيش واليومي، ولكنه في عمقه يستدعي متاهة مرآوية، تعكس تضعيفات الذات، ومراوحاتها، وتيهها في الأماكن بحثا عن تجل آخر لوجود ممكن في المكان والزمان. ـ لغة طفولية رقيقة آتية من الحلم. ـ تفاصيل ممتعة، تصوغ العالم. ـ بناء هارموني متناغم. ـ ذاكرة نصية لمكان لا يحظي بالوصف. ـ شخصيات ممزقة، تظهر علي شروخ المرايا. ـ تداخل بين الزمان والمكان. ـ عنف في تفاصيل اليومي. لعلها ملامح عامة لهذه المجموعة، تنحتها الكتابة علي جسد موشوم بوشم الذاكرة، ولعل منحي يسيرياً يجعلنا نتصور أنه يلم قصص المجموعة في نص جامع، هو ما يشكل الوحدة الدلالية الكبري للمجموعة، تهيمن عليه الذات الأنثوية وسلطة الذاكرة. وبقراءة عناوين المجموعة، نجد أنفسنا أمام تسميات دلالية، لمسميات تحضر فيها المرأة في علاقتها بالرجل، حضورا يسعي إلي تحرير الجسد من أغلاله المجتمعية، دون إباحية، أو رومانسية فجة، بل إن عمق هذه العلاقة، وارتباطها بالمجتمع، والسعي نحو التحرر والتحرير، هو ما يضفي علي قصص “أوهام شرقية” متعة الحكي وبهاء التفاصيل، عبر لغة مقتصدة تجنح نحو الشعرية أحيانا، لغة لا تخادع القاريء، وإنما تستدرجه لاكتشاف خرائط وجغرافية الذاكرة الأنثوية، وتشبعها بالمكان والناس والجراح. وبكل المعاني، فإن “أوهام شرقية” ككتابة قصصية قد تندرج ضمن ما يلح البعض علي تسميته “كتابة نسائية عربية” بطلاتها من النساء، وجرحها هو جرح الجسد الأنثوي، وعالم منظور إليه من زاوية نظرة أنثوية قد تكون لها مسالكها الخاصة وأحاسيسها وقيمها النوعية التي تتملك من خلالها هذا العالم. “لنا عبدالرحمن” اسم جديد يشق طريقه نحو الإبداع القصصي، بخبرة سردية متميزة وذكاء في التعامل مع اللغة والتخييل وبناء العوالم، ولعل هذه المجموعة، تؤشر، علي أنها ليست كتابة نزوة عابرة، بل إنها تبشر، بميلاد اسم أدبي جديد، له القدرة علي توسيع عوالم المحكي، وتجريب أدوات الكتابة، والدخول في الرهان الصعب، رهان بدء العالم من الكتابة. في مجال الكتابة، ليست هناك وصاية من أحد علي أحد، فالكتابة تحرر، وتملك لسلطة التخييل، وهي مغامرة، وصبر، وتحمل. فلعل “لنا عبدالرحمن” تفهم الكتابة بهذا المعني العام، ولعلها تشق لنفسها طريقا لذاكرة أكثر خصوبة، هي ذاكرة المشترك المجتمعي والثقافي، بعيدا عن إكراهات الذاكرة الأنثوية، قريبا منها، بعيدا عن الأنا والأنت، قريبا من نحن والآخرين، بعيدا عن الكتابة التي تشبه السيرة، قريبا من سيرة مجتمع متحول وسيرة كتابة متحولة أيضا، بين ما يعتبر تأسيسا لمتخيل نصي ذي طبيعة كونية. في “أوهام شرقية” ما يؤشر علي قلق الإنسان، وهو قلق مبوأ في أوضاعه المجتمعية، وفي مراياه المشروخة، وهو ما يفسح المجال، للكاتبة، لأن تبدأ بارتياد عوالم أرحب وأوسع، لعلها تبدأ من ذاكرة المدينة، وحيث لا تنتهي. أستحضر في مقام هذه القراءة لـ “أوهام شرقية” كتابات غادة السمان، كوليت خوري، ليلي بعلبكي، ليلي العثمان، حميدة نعنع، هيفاء زنكة، إيتيل عدنان، ليلي الأطرش، وخناثة بنونة، علي سبيل المفارقة، والمشترك استحضار سطوة الذات أو تأجيل الذات. فهل قدر المرأة هو أن تكتب كامرأة، وهل قدر الرجل هو أن يكتب كما لو كان رجلا وامرأة في آن؟ لعل التجاوز يصنع تاريخا جديدا لأدب عربي جديد، تتوهج وتنتصر فيه الكتابة التي تكتبها نساء عربيات علي ذواتهن، ولقد بدأ هذا التاريخ يكتب نصوصه، مع نساء عربيات من أمثال سحر خليفة، هالة البدري هدي بركات إنه التاريخ الأدبي نفسه الذي كتبته بيرل باك، مرغريت ديراس، كاترين مانسفلد، سيمون دي بوفوار، وهو أدب قمم إنسانية تم فيه توظيف الذات لصالح الموضوع. لن يرعب هذا التصور “لنا عبدالرحمن”، لأنها بجرأتها تستطيع أن تحرر الكاتبة من الذات، لصالح الموضوع، بعمقه الإنساني ومعانيه الكبري. إنها تقول معنا جميعا: في البدء كانت الكتابة.. ومن رحم الكتابة، يولد العالم من جديد.

د. محمد عزالدين التازي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى