تجريب الحداثة في الخطاب السردي النسوي المعاصر
لا شك في أن خطاب المرأة في المشهد الأدبي المعاصر في عالمنا العربي استطاع أن يؤسس بنية سردية جديدة تقوم على خلق أدوار تؤديها المرأة تشكيلاً للذات الأنثوية كما تقوم على استشكاف النسيج الذي يكون الهوية ستفاني ورجاء عالم وميرال الطحاوي.. وغيرهن، حيث تمكنت المرأة المؤلفة من حيازة سلطة التأويل وإعلان خطابها في ظل الإنسانية الثقافية السائدة والتي لا تزال تخضع لسلطة النص الذكوري.
أعلنت المرأة المؤلفة انقلاتها من المكان ـ الحريم ـ ومن الزمان ـ التهميش والتغييب ـ، وطرحت آليات الهيمنة الذكورية منطلقة إلى فضاء مفتوح يحمل التمرد على كل القيم الأخلاقية والاجتماعية والفنية التي وضعها الرجل وألزم بها المرأة.
ومع ما حققته المرأة المؤلفة في خطابها السردي من محاولات لتثبيت النص النسوي إلا انها لازالت تشعر أنها في مأزق خاصة في مواجهة الوجدان الأخلاقي والاجتماعي الذي أسسه الرجل خلال قرون سيطرته.
وبسبب هذا المأزق ترى المرأة المؤلفة نفسها في حالة تجريب المعاصر والذي اختلف اختلافاً بعيداً عن خطاب الجيلين السابقين، جيل لبيبة هاشم وندرة ألوف ومي زيادة وجيل عائشة عبدالرحمن وجاذبية صدقي وصوفي عبدالله هذان الجيلان اللذان لم يختلف خطابهما النصي عن خطاب الرجل فتناول الشأن العام من قضايا سياسية واجتماعية وإنسانية وبعض الهواجس النسائية كالدعوة إلى تحرير المرأة وتعليمها والزواج المبكر.
اختلف الخطاب النصي المعاصر للمرأة إذن عن خطابها في نصوص الأجيال السابقة، ساهم في هذا حراك ثقافي كبير وتغيير اجتماعي سريع، فقد خرجت المرأة إلى العمل، وأصبحت قسيمة الرجل في رأس المال، وأصبح من حقها بالتالي أن تمتلك وأطلت بفكرها على نوافذ الاتصال العالمية، فرأت وقارنت وتمثلت.
التجريب والتحديث إذن هما أساس النص المعاصر للمرأة وهو تجريب نابع من تمردها على نصية النقاب ونصية الخطاب الذكوري من ناحية، كما أنه نابع من الرغبة المؤكدة في تحديث الخطاب النصي على نحو غير مألوف من ناحية أخرى هذا ما تؤكده نصوص رجاء عالم وأحلام مستغانمي وهو ما يؤكده أيضاً الخطاب السردي للكاتبة اللبنانية لنا عبدالرحمن في مجموعتها القصصية الأخيرة (الموتى لا يكذبون)، وهي المجموعة الثانية للكاتبة بعد مجموعتها الأولى (أوهام شرقية) والتي صدرت عام 2003.
في مجموعة (الموتى لا يكذبون) تطرح الكاتبة جانبا سرد الواقع الخارجي المرصود من عين الملاحظ المجرب، فهو واقع مرفوض بمفرداته وقيمه، وتلجأ إلى عالم آخر فيه الخصوصية والذاتية والتفرد، ذلك هو عالم الاستبطان الداخلي بمستوياته المتعددة حيث خصوصية الرؤيا وصدقها الذاتي وصفائها الانفعالي، وحيث الزمن الآني الذي يملك الارتداد والاستقبال في حضور اللحظة الموقف وحيث اللغة التي تمتلك بكارة الصياغة والتشكيل.
واقعاً حقيقياً لا يعترض به الآخرون فهم يحيون منظومة القيم المعرفية والإدراكية الواقعية، ولا يدركون سواها، أما هي فتفردها يأتي من رفضها لهذه المنظومة واعتمادها كلية على وعيها الخاص الذي تحركه مشاعرها الخاصة.
خالها مات منذ عام وأكدت الأم ومن شهد غسله هذا لكنها تراه وتقف معه وتكلمه وينصحها أن تترك خطيبها فهو لا ينفعها.
لقد أرادت أن تراه فرأته وحدثته بل إنه عندما أخذت مفتاح بيته من أمها وجدت البيت عامراً بالحياة وأسبابها، ووجدت علبه سجائره الفارغة على المنضدة، فآمنت بنفسها ورؤاها الخاصة، وخلعت خاتم الخطوبة استجابة لنصيحة خالها التي ولابد أنها تطابقت مع رغبة باطنية لديها لم تفصح عنها.
وفي قصة (عنب أحمر للمساء) تستدعي اللحظة الشعورية للموقف تياراً متدفقاً ومحكوماً في آن معاً لذكريات عامرة بالمشاعر يختلط فيها الماضي بالآتي في لحظة آنية تتناثر فيها المختزنات النفسية التي اندفعت في مشاهد حاضرة تشكل أبعاد الموقف الانفعالي وذلك من خلال توظيف محكم ومتفهم لمونتاج المشاهد المرئية وكولاج المشاهد التشكيلية.
اللوحة الأولى أو المشهد الأول لطفلة صغيرة تحتضن لعبتها الدمية المشوهة مبتورة اليد عوراء بعين واحدة تسعى مع أمها للهرب من نيران الحرب الأهلية في لبنان، ومفردات الصورة قذائف ترتفع من حولهما وحيطان مهدمة ومليئة بثقوب المدافع وشوارع خالية ورائحة البارود تملأ المكان وكيس الثياب الذي تحول إلى أشلاء، أما الصورة الثانية أو المشهد الثاني فمكان مرضه هادئ وقت المساء، تجلس فيه في انتظار صوت السرد الغامض تتناول حبات العنب الأحمر في مسائها الأخير معه، تحتفظ بالعنقود الفارغ ذكرى لهذا المساء وستجففه وتحتفظ به بين دفتي كتاب كما يضع الناس الورود للذكرى ويأتي المشهد الثالث تياراً من المشاعر المتباينة بين طفولة دافئة بباقات العشب العطري وبرودة اللحظة في جفاف يهددها بالتصحر أما اللوحة الرابعة والأخيرة فلامرأة تستند إلى السور إلا من كمان تعزف عليه موسيقى تقوم في الفضاء قدمت الكاتبة في القصة أربعة مشاهد انفعالية يدفعها مبدأ المفارقة والتنافر واعتمدت على كولاج تشكيلي في تقطيع المشاهد ولصقها متجاورة لتكون في النهاية بنية سردية حديثة بدأ بالانفعال بالموقف على عكس البنى السردية التقليدية التي تتحرك بالموقف الحدث من لحظة حيادية ثم تتطور بها وصولاً لموقف الانفعال الذي تولده الأحداث والشخصيات فالمشهد الأول في قصة (عنب أحمر للمساء) يضع المشاهد القارئ مباشرة في مواجهة الموقف الانفعالي بما يثيره المشهد من خراب ودمار لا مبرر لهما ومن هرولة الطفولة والأم بحياتهما في محاولة مستميتة لانقاذ الحياة من الحرب والدمار الذي ألحقه الإنسان بالإنسان، وكأنها تقدم أسطورة الحياة في نشأتها من الجدب حيث تسند المسئولية هنا إلى الأنثى الأم والطفلة، فصراع الرجال بات يهدد الحياة.
ثم تتوالى المشاهد بعد ذلك عارضة لصور الدفء والبرودة والعشق والعقم لتنتصر المرأة بموسيقاها التي تشع الدفء في الأمسيات الحزينة.
هكذا استبطنت الكاتبة عالمها الشعوري وأحالته إلى مشاهد كولاجية تحرك العالم في حشد من الصور المتراكمة التي تقدم سرداً حداثياً جديداً يمزج الصور المرئية والمسموعة في جو انفعالي خاص يجعلك تشعر بالموقف من خلال سرد الحكي وسرد الصورة المرئية.
التجربة التي تقدمها المؤلفة لنا عبدالرحمن في مجموعتها الجديدة (الموتى لا يكذبون) كما لاحظنا تجربة استبطانية، تسرد فيها الكاتبة قراءتها لمشاعرها، فتعمد إلى رصد صور هذه المشاعر وحكيها في متواليات من المشاهد التي تعتمد على أسلوب قطع المونتاج في المونتاچ الالكتروني الحديث.
ومن الطبيعي أن تكون هذه التجربة تجربة استبطان داخلي فهذه سمة أساسية في الخطاب السردي النسوي المعاصر الذي يقدم معاناة بطل مأزوم يعاني مأزقاً حقيقياً على المستويين الواقعي والإنساني ومن ثم فلا سبيل أمامه سوى الاحتماء بنفسه ومشاعره يعيد بها تشكيل صورة العالم في ملحمة الخلق الجديد.
ومع أن هذا الخطاب سمة عامة في الخطاب الفني المعاصر للرجل والمرأة إلا أنه هنا في خطاب المرأة يزداد حدة وإلحاحاً استناداً إلى ميراث القهر والعبودية الذي لا يزال يحكم شبكة العلاقات المعقدة في الانساق الثقافية السائدة وهو ما يجعل من أزمة الواقع بانساقه الاجتماعية والسياسية والثقافية والدينية أزمة وجود على المستوى الإنساني.
وهو ما دفع الساردة في قصة (أحلام تغسل الماء) إلى أن يقول أدرى أنني لا أشكل إلا هجراً في رتابة هذا الكون وعبثيته فإنه لا يحتاج وجودي، ولا يلفظني خارجاً.
هكذا كان على البطلة أن تعلن موت الحواس التي تقدم العالم كما يصنعه الآخرون، ويحكونه، فهو عالم مرفوض مُدان، وأن تستبدله بعالم آخر تملكه وتملك معه حرية تشكيله وصياغته وحرية حكيه بالتالي بل إنها أكثر من هذا تملك الحرية في أن تحكيه في صور مختلفة وهو ما يسمى الآن في تقنيات السرد الحديث بالحكي داخل الحكي، والحكي في صور متحررة.
تقول الساردة في قصة (موت الحواس) والكاتبة تلجأ أحياناً إلى اختيار العناوين المباشرة ربما لتكون مفتتحاً واضحاً للدخول إلى سرديات المواقف الانفعالية عندها.
تقول الساردة بدأت حواس تُعلن موتها، لتدخل في غيبوبة طويلة، حاسة وراء أخرى باتت تنتهي وصرت أعي بعمق سرعة تبددها وتحولها لأشلاء أوصال لا تجمع ولا تلم.
الأيام الأحداث الأشياء، تبدو لي واهية، باهتة، بلا بريق لا طعم لها لا لون، لا رائحة، لا ملمس، لا نكهة تميزها، ولا عبق يشعل حاسة فرح ويستدعيها.
فكرت أنه ربما على أن أحلم وأحلم في محاولة مني لإقامة علاقة سرية مع أمنيات أو غل فيها بالمتعة. وهذا هو مشروع السرد الحداثي عند الكاتبة رصد المشاعر الداخلية وخلقها في صور سردية.
فأحلام في قصة (أحلام تغسل الماء) ولاحظ الدلالة الرمزية لتوظيف الاسم تمارس فعلاً جنونياً متمرداً على منطق الواقع فهي تنتظر حتى يسقط المطر فتملأ الدلاء بالماء وتضعها في فناء البيت وتقف تحت المطر لتشاهد المطر وهو يغسل الماء في الدلاء.
وبغض النظر عن تأويل الفعل هنا تأويلاً نفسياً ورمزياً وما يمكن أن يكشف عنه رمزية الماء، فالفعل في حد ذاته فعلي جنوني من وجهة النظر المنطقية العقلية، إلا أنه في دائرة المنطق الذاتي الداخلي فحل شعوري مقنع على الأقل للشخصية، ويكفي أنها في أثناء أدائها للفعل الجوني هذا وبعده تحس بغبطة غريبة تغطي مساحات وجهها المثلث الصغير حواف بنطالها يسيل منها الماء، بلوزتها القطنية رطبة، لكنها ترفض خلعها.
استخدمت لنا عبدالرحمن في خطابها السردي إذن ما يمكن أن اسميه بسرد الانفعالات، موظفة هنا ما اسميه أيضاً بالمشاركة السرية حيث تتعمق النظر فيما تريد أن تختبره فتملأ به أنفساك حتى تشعر أنك أصبحت هو، ولكي تجسد الكاتبة هذا المدلول الصوفي الذي تحولت فيه الذات إلى موضوع والموضوع إلى ذات استخدمت نسيجاً سردياً يجمع بين تيار الوعي وتيار اللاوعي مع تعدد مستويات الضمائر والانتقال بينها على نحو ما نري في المقطع التالي من قصة (أحلام تغسل الماء): لا يصدقها أحد تقسم لهم أن الأشباح تخرج ما إن يفتح الظلام فمه، وإنها تسحبها معها، وتلقيها أرضاً وتبدأ بجلدها، لكنهم لا يصدقون، تكره جسدها، تراه دميماً صار أسود من آثار السياط التي تسقطها الأشباح عليه، تتكور على نفسها بشكل جنيني، تخبئ رأسها عيناها مغمضتان لن تفتحهما لأنهم سيأخذونها معهم مما حاجتها إلى فتح عينيها تحفظ جيداً كل محتويات الغرفة بجانب السرير طاولة صغيرة عليها أوراق بيضاء، وأقلام حبر كثيرة كرسي بلاستيك برتقالي قبيح يرقد قرب دولاب الملابس البني ذي الدرفتين، هناك قطعة موكيت صغيرة من اللونين البرتقالي والبني كم تكره البرتقالي لأنه يتخذونه وسيلة لإشعال ألسنة اللهب في غرفتها كلما كانت غانية بهدوء، ونسيت العتمة وتقلبت يمينياً ويساراً.
لو فتحت عينيها وأبصرت الكرسي البرتقالي ستجد النيران تشتعل به وتتوهج كلما نظرت أكثر ويقترب النار منها تزحف نحو كل ما في الغرفة تلتهم دولاب الملابس السجادة والطاولة الصغيرة وتزحف نحوها برتقالية جداً ينهمر من همساتها سائل أسود يروي النيران فتشتعل أكثر تصرخ لا أحد يستمع إليها.
حاولت أن أقول لهم إن أحلام ستمرض وتموت من البرد لو أنها استمرت في حمل دلاء الماء، وربما تصاب بداء صدري يودي بحياتها يرعبني (رحيل أحلام من سيغسل الماء لو ماتت) ومن الطبيعي أن ترتكز هذه السردية على شاعرية انفعالية استخدمت فيه الكاتبة لغة الصورة استخداماً موفقاً: غفت في تلك المدينة البعيدة ذبلت وهي تبحث عنهم أين هم؟ رحلوا بعيداً مضى عليها آلاف السنين هنا.
تنتظر شابت خطاها ترجوهم البقاء لكنهم يرحلون في كل مرة عنها، بعد أن يلقوا بفتوحاتهم فيها، كم أوهموهاً بنصرهم تنخدع وتعود لتصدق هي بلاد العشق التي أمها الجميع، وركعوا عند قدميها يطلبون عشقاً صافياً كخيالاتهم عنها يتذوقون رحيق الغيث الأول وتغمرهم نشوة لا يقدرون على احتمالها فيرحلون.
هكذا استطاعت الكاتبة اللبنانية (لنا عبدالرحمن) من خلال مجموعتها القصصية الثانية (الموتى لا يكذبون) أن تقدم خطاباً سردياً نسائياً معاصراً يقوم على تأسيس بنية سردية جديدة تفرق في خطابها بين الوعي الاجتماعي والوعي بالنوع وتخرج إلى فضاء مفتوح يحتمل التمرد على كل القيم التي وضعها الرجل وألزم بها المرأة باستشكاف النسيج الذي يكون عالم المرأة والذي رأيناه في التجريب المتمرد على المألوف والمقنن.
د.السعيد الورقي