شعبان يوسف يوجه السهام ليوسف إدريس وعصره

 

 

الكتاب الذي اختار له الشاعر شعبان يوسف عنوانا مثيرا هو ” ضحايا يوسف إدريس وعصره” – دار بتانة للنشر – في غلاف جذاب تشغله صورة إدريس مع كلمات تنوه بأنه كاتب القصة القصيرة الأول، يتناول إشكالية تتعلق بالأوساط الأدبية والسلطة وارد حدوثها في كل زمان ومكان وربما في أي ساحة ثقافية وأدبية، بل وفي الثقافة العربية تحديدا، إنها ظاهرة سيطرة اسم ما على الساحة الأدبية، بحيث يشغل حضوره الثقافي والفكري أذهان النخبة والجمهور على حد سواء، في مقابل تعتيمه على حضور أسماء أخرى ربما لا تقل عنه أهمية.

يقع الكتاب في ستة عشر فصلا، يتناول كل فصل إحدى الشخصيات المعاصرة لإدريس، أو تحليلا لحدث يرتبط بتلك الحقبة كما في : ” كيف قرأه أبناء جيله؟ وكيف كانت علاقتهم به؟” أو ” يوسف إدريس وأنطون تشيخوف وكتاب عصره”، أو ” الجوائز ونجيب محفوظ وظواهر أخرى مثيرة”، أو ” من الذي صنع الأسطورة وكيف؟ “.

يمكن القول أن كتاب شعبان يوسف يلقي حجرا في مياه راكدة ليقدم رؤاه وتحليلاته عن حقبة ثقافية مضت ترتبط بزمن الخمسينيات ، إنه عصر عاصف بالحيرة والتساؤل والصعود القومي والانقلابات الفكرية الحادة، كما أنه يعد عقدا ذهبيا للقصة القصيرة وكُتابها. لكن ما يسرده الكاتب وما يطرحه من تساؤلات لن تنحصر في شخصية يوسف ادريس وابداعاته وحروبه فقط، بقدر ما ستتفرع نحو مرحلة كاملة ظهرت فيها قامات من الأسماء المبدعة التي تتكشف لها مواقف أخرى غير معروفة  أو شائعة، وكما لو أن عبارة ” الضحية هو جلاد قادم” تنطبق في المجال الثقافي أيضا، كما يتضح من العديد من الحكايات الواردة في الكتاب.

يؤكد الكاتب منذ البداية على عبقرية يوسف ادريس، ويكرر هذا في أكثر من موضع مخافة حصول التباس بأنه يتناول ابداعات ادريس ومكانته الأدبية، فيما هو يتناول ملابسات ظهوره الأدبي المدوي، وبزوغ نجمه على الساحة الثقافية وانتشاره السريع، ثم والأهم علاقته مع السلطة، مدركا أن كتابه ربما يثير حوله عاصفة من الغضب ، لأنه يحاول الاقتراب من العصب المكشوف للتاريخ الثقافي في مصر، ذلك التاريخ حسب رأيه الذي يجهله أو يتجاهله الكثيرون. يقول: ” رغم أن عبقرية يوسف ادريس لم تتكرر حتى الآن، وكذلك لم يظهر الكاتب الذي أحدث تلك العاصفة التي أحدثها يوسف إدريس، إلا أن ظاهرتي الاستبعاد والاستقطاب قائمتان وفاعلتان بشكل أوسع، وتعمل الظاهرتان بضراوة عبر دوائر أكثر تعددا من الأزمنة السابقة وبأدوات ليست شبيهة وربما تكون نقيضة، فالدولة التي كانت تكرس لكاتب بعينه أو لشاعر أو فنان لم تعد موجودة ولم تعد مقنعة مثلما كانت، ومن الطبيعي أن يصبح المدعوم من الدولة مرفوضا”

إن زوال فكرة الكاتب المدعوم من الدولة، كما يرى المؤلف لا تعني مطلقا غياب ظاهرة تتويج كاتب ما في الصدارة، بل يعني أن هناك عوامل أخرى مثل دور النشر ومؤسسات المسابقات وآليات الترجمة والصحف والصدأ المتراكم في الكواليس والمؤامرات والدسائس والشللية والإعلام المرئي والمسموع والمكتوب والنقاد، كل هذه آليات أصبحت بدائل فاعلة وقوية للدولة القديمة.

في فصل تحت عنوان ” مصطفى محمود” المناؤى الأول”، يحكي شعبان يوسف عن الكاتب المثير للجدل مصطفى محمود وصراعاته مع يوسف إدريس، حين كتب رسالة موجهة إلى أحمد بهاء الدين رئيس تحرير مجلة “صباح الخير”، معتبرا أن الكتاب يعيشون عصر المماليك الأدبي، يقول ” لكن الحقيقة تكشف عن نفسها لأن مصطفى محمود كان يكتب مذبحة القلعة، وفي ضميره هذا الاحتفاء الذي يجده ويلاحظه بيوسف إدريس من كافة الأطراف”

يرى الكاتب أن إدريس كان يطلق أحكامه النقدية والتقييمية على أدباء عصره حين يُسئل عنهم بأسلوب يقيني لا يحمل أي جدل مثله في ذلك مثل طه حسين والعقاد وعبد الرحمن بدوي، كأن يقول إدريس في احدى حواراته أن فتحي غانم ظُلم كثيرا في عهد نجيب محفوظ، مع أنه لا يقل  جودة عن نجيب محفوظ، وفي هذا تلميح مباشر لنقد محفوظ حتى حصوله على نوبل، حينها اندفع إدريس لمهاجمة محفوظ بعدائية واضحة قائلا بأن نوبل كانت من حقه هو، أو أن يقول عن نفسه : ” أنا رأيي أن وجودي جنى على بعض كتاب القصة القصيرة “. ويبرر الكاتب مثل هذه الآراء بأنها ناجمة عن شعور إدريس الطاغي بعلو ذاته الفنية والثقافية والأدبية، ذلك الشعور الذي جعله لا يرى أحدا قبله ولا بعده أو أمامه وراح يطيح بكل من سبقوه بل اعتبر أنه أول من كتب القصة القصيرة ” المصرية”، ملغيا بذلك جيلين أو ثلاثة أجيال كاملة  منذ محمد ومحمود تيمور وحسن محمود وإبراهيم المصري ومحمود طاهر لاشين ويحيى حقي وإحسان وعيسى عبيد ثم سعد مكاوي ومحمود البدوي…وغيرهم.

في الفصل الأخير الذي يحمل عنوان ” محمد صدقي – مرة أخرى- المستبعد من ذاكرة النقد”، يتناول الكاتب ظاهرة الأجيال الأدبية والتصنيفات الجيلية أو الفئوية، ويعتبرها فكرة تشييع في الحياة الثقافية والفكرية وتظل مؤثرة لزمن معين حتى  تأتي فكرة أخرى وتزيح القديمة عن مكانتها من دون مراجعات نقدية واضحة تنصف المستبعد أو تبرر ظهور الجديد، تسفر هذه الظاهرة بالتالي عن سقوط أسماء مهمة واستبعادها من ذاكرة  النقد خاصة إذا كانت كتابات هذه الأسماء لا ترتبط بأي تصنيف فئوي، ويتوقف يوسف أمام اسم الأديب الراحل ” محمد صدقي” الذي اختصره النقاد بأنه أديب الطبقة العاملة، لكن تم تهميشه كثيرا كما يرى المؤلف، لأن التركيز على حياة صدقي – بوصفه قادما من طبقة العمال- أكثر من التركيز على دراسة قصصه يقول : ” كانت قصصه من وجهة نظري تنافس في فنياتها قصص أعلام تلك الفترة وأرى أن ذلك الرقي الفني منذ مجموعته الأولى الأنفار”.

لا يخفى ما في هذا الكتاب من تأريخ للذاكرة، ومن متعة في السرد لوقائع أدبية وثقافية من خلف الكواليس، ترتبط بماض قريب ربما لا يعرف عنه الجيل الشاب الآن إلا تفاصيل قليلة جدا.

ومن الممكن أن تكون في الكتاب بعض المجازفات، وربما تكون هناك أيضا مبالغات، لكن اثبات هذا أو نفيه، يحتاج إلى من يتصدى له في كتابة موازية، تناقش ما طرحه شعبان يوسف وتفنده، بغرض إيفاء كل ذي حق حقه، وإن كان هذا نادر الحدوث في عالم الأدب والثقافة، لأن ظاهرة يوسف إدريس كما يقدمها الكاتب تتجاوزه كشخص ولا تنتمي لذاك الزمن فقط، بل إنها ظاهرة قابلة للتكرار في كل مكان وزمان، لكنها تتكرر من دون عبقرية يوسف إدريس في كتابة القصة القصيرة.

لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى