زواج أكرم المصري وسونج الصينية دونه عقبات “حضارية”

 

شباب صينيون مع أقنعة: لوحة للرسام زينغ فانزهي

تنتمي رواية “حدث في شنجن” (كتب خان- القاهرة) إلى نوع الروايات التي تطرح قضية الاختلاف الحضاري في المقام الأول. يقدم محمد إسماعيل في عمله الروائي الأول مواجهة مباشرة بين بطل مصري يعيش علاقة حب شائكة مع فتاة صينية، خلال رحلة عمل إلى الصين لمدة أسبوعين. تستدعي هذه الرواية إلى ذهن القارئ العديد من الأعمال الإبداعية العربية التي وضعت بطلين من ثقافتين مختلفتين في مواجهة مباشرة عبر انتماء كل منهما إلى واقع مختلف تماماً عن الآخر. هكذا يظل حاضراً على مدار النص ذاك الصراع الداخلي الذي يعتمل داخل النفس الإنسانية لحظة مواجهتها مع نقيضها، وكما لو أنها لحظة تعرٍ مجردة من الدفاعات المسبقة، تحمل في ثناياها رغبة اكتشاف الآخر وأيديولوجيته وثقافته ومعارفه وأفكاره، ورغبة في مقارنة كل هذه الأمور مع الأنا المرتبكة.

الرواية مكتوبة بلغة رائقة، عبر فصول قصيرة اعتمدت على المشهدية في متابعة أبطالها ونقل واقعهم. يضع محمد إسماعيل القارئ منذ الصفحات الأولى أمام بطلته “سونج” الموجودة في الطرف الآخر من العالم في مدينة “شنجن” تحديداً وتعاني من هجران حبيبها المتزوج، راودتها فكرة الانتحار لكنها لم تقوَ على تنفيذها.

العلاقة المزدوجة

في المقابل ينفتح النص أيضاً على حكاية أكرم وهو شاب مصري ثلاثيني تقليدي، يستعد للسفر في مهمة عمل إلى الصين، تاركاً أمه (ابتسام)، وهي كل من تبقى من عائلته، وإحساسه بالذنب لاضطراره السفر وتركها. إنها تيمات مألوفة في مثل هذا النموذج من العلاقات الإنسانية. تتقاطع المصائر بين أكرم وسونج، زميلته في العمل، فيُمثل الغريب الآتي من مصر فرصة جيدة لمحاولة العثور على السعادة من جديد. ولا يتأخر الكاتب في زج القارئ في المواجهات الفكرية والثقافية بينهما، حول المعتقدات والطعام والعادات والتقاليد. لنقرأ هذا الحوار بين البطلين: “لم أجد ما أستطيع أكله، ولا أعرف إلى متى سأصمد هكذا، كما أنني لا أجيد الأكل بالقضبان، لذلك أنا تقريباً لم آكل منذ تركت الطائرة”. -“لن يحدث لك شيء إن لم تأكل سوى الخضر والفاكهة، جدتي لا تأكل سواهما وصحتها جيدة للغاية”.- “جدتك نباتية؟ نادراً ما تجدين نباتياً في مصر، نحن شعب يعشق اللحوم”.- “جدتي بوذية مخلصة جداً، لا تأكل شيئاً له وجه”.

تتكرر في كثير من المواضع هذا النوع من الحوارات الكاشفة عن المكان الذي جاء منه البطلان، أكرم في تكوينه الإسلامي الثقافي الشرقي، وسونج ابنة المجتمع الصيني المتأرجحة ما بين القديم والجديد، بين التقاليد الصينية القديمة التي تعرفها جيداً لكنها لا تنتمي لها، وبالقدر عينه تنفصل نفسياً عن الصين العصرية وساعات العمل الطويلة والخواء الروحي الذي قد يدفع البعض للتفكير في الانتحار. تبدو الحياة اليومية لسونج متشابهة مع واقع الحياة الغربية، رغم شرقية الصين، فإن الواقع العملي في إيقاع الحياة يطغى عليه الالتزام المهني لساعات طويلة، ثم حفلات نهاية الأسبوع مع الأصدقاء للرقص والشراب. قد يبدو هذا متنافياً في وجه ما مع الصورة المألوفة للصين في الروايات المترجمة حيث المعابد الصينية، وأقداح الشاي الأخضر وجلسات التأمل والراهب البوذي الذي يضفي حضوره على النص طابعاً حِكمياً. لن نجد هذا في الرواية، لأن إسماعيل سعى لتقديم وجوه واقعية لهذا البلد، تفاصيل آتية من حياة الناس العاديين، المسحوقين تحت عجلة الحياة الاستهلاكية السريعة. حتى في الفصل الذي تضمن زيارة أكرم إلى المعبد الصيني وحواره مع الراهب البوذي، أدى هذا الحوار به إلى مزيد من الأسئلة بلا أجوبة شافية، بينما سونج تقول ببساطة: “كل الأديان أتت لتقود الإنسان نحو السعادة، وبقدر تشابه الإنسان تتشابه الأديان”.

الهوية الذاتية

ثمة صراع نفسي دائم، يتمثل حضوره في شكل جلي في شخصية أكرم الذي يستسلم لرغباته الحسية وعشقه المحموم لسونج، وفي الوقت نفسه يرافقه شعور بالندم طوال الوقت. الاستسلام للرغبة بالنسبة لأكرم لا يتعلق بعلاقته الجسدية مع سونج فقط، بل في تردده على جلسات المساج، وإحساسه بالدونية من بعدها، يقول: “استحم بسرعة ووقف يصلي قبل أن تعود. فشلت قراراته الأخيرة في أن تُخفي عنه ارتياحه للصلاة في غيابها… ليس من شيء يعادل قوة العقيدة تأثيراً على سلوك الإنسان. ما الذي يجعل طبيب الميدان يعالج أسيراً جريحاً باذلاً ما في وسعه لإنقاذ حياته، بينما يحاول زميله المحارب حصد ما يمكن من رؤوس مواطني الأسير نفسه؟ ما الفرق بينهما سوى عقيدة أحدهما في دوره بإنقاذ الحيوات، واعتقاد الآخر بدوره في الدفاع عن الوطن؟”.

في المقابل لا تبدو سونج جزءاً من هذا الصراع على الإطلاق، بل إنها تأخذ علاقتها مع أكرم على محمل الجد وتعتبر أنه جاء من بعيد كي يعوضها عن فقدها لحبيبها. إن حاجز اللغة والعادات المختلفة في رؤية العلاقات الإنسانية لا تجعل من سونج قادرة على سبر أغوار أكرم الرجل الذي ينام بجوارها ليلاً، ويحس بالندم نهاراً بسبب هذا القرب، وهذا يجعلها حائرة طوال الوقت لا تُدرك أسباب تحولاته. ولا تكتشف المساحة التي تفصلهما إلا في الفصول الأخيرة من الرواية، حين تواجه أكرم بالسؤال عن سبب تردده على مراكز المساج، إذ بالنسبة لسونج ترى في هذا الفعل خيانة مؤذية لها.

تحمل شخصية أكرم دلالة رمزية تُمثل أي شاب عربي يغادر حدود ثقافته الأم وبيئته الحاضنة نحو مجتمع آخر مغاير لانتمائه، أياً كان هذا المجتمع، سوف تتجلى سريعاً الاختلافات التي تؤدي لنشوء الصراع الداخلي. حرص الكاتب في رسمه لشخصية بطله على التركيز على ازدواجيته وتناقضه، وإحساسه بالألم الداخلي نتيجة هذا التناقض، مع عجزه في الوقت نفسه عن الانحياز لذاته. فهو من جانب الواقع الاجتماعي عاد للتواصل مع غادة زميلته في العمل التي يبدو أنه اقتنع بها كزوجة، وفي المقابل يستمر تردده على مكان لجلسات المساج في “المركز الطبي الصيني” في القاهرة، متبنياً فكرة أن “التجربة الأولى تظل تطاردك، لا تكتفي بذلك فحسب، بل توهمك بأنك من يطاردها حتى تبتلعك تماماً”.

تتضمن الرواية فصولاً عدة تناولت شخصية الأم (ابتسام)، وبدت معبرة ودقيقة في وصف شخصية الأرملة المتفانية في تربية ابنها التي تكتشف فداحة فراغ حياتها عند غيابه. هذا النموذج جسد حال المرأة العربية التقليدية التي يتلاشى كيانها برضا تام في ظل الأسرة. قدمت “حدث في شنجن”، بأسلوب سلس وواقعي للغاية نماذج مألوفة نشاهدها في المجتمع العربي، لكنها طرحت رؤية جديدة في مواجهة الثقافة العربية مع الثقافة الصينية والصراع الداخلي الذي ينتج عن تلك التقاطعات القدرية بين الأبطال.

لنا عبد الرحمن 

independentarabia

زر الذهاب إلى الأعلى