ليتيسيا كولومباني تكتب حيوات نساء مختلفات عنها

 

 

تستطيع بعض الروايات أن تحقق انتشارا واسعا في زمن قصير ، ومنذ الطبعة الأولى تصل إلى قائمة الأكثر مبيعا في عدة بلدان، هذا الكلام ينطبق على رواية “الضفيرة” للكاتبة الفرنسية ليتيسيا كولومباني، التي تمت ترجمتها إلى ثلاثين لغة، وصدرت بالعربية عن المركز الثقافي العربي، بترجمة : معن عاقل.

تخوض الكاتبة في ” الضفيرة” مغامرتها الروائية الأولى، بعد كتابتها سيناريو لفيلمين هما ” نحو الجنون، لا أبدا” و ” نجومي وأنا”. تناولت كولومباني في روايتها حكايات عن ثلاث نساء، كل واحدة منهن تنتمي إلى واقع مختلف تماما عن الأخرى، وتعيش في  بلد آخر، بل في قارة أخرى. يمكن القول أنه لا توجد قواسم مشتركة بينهن، ومع ذلك جمعتهن الكاتبة في ضفيرة واحدة.  أما  روايتها  الثانية الصادرة بالفرنسية منذ عدة أشهر تحت عنوان ” المنتصرات “- لم تترجم إلى العربية بعد، تدور أحداثها في باريس؛ بطلتها تدعى “سولين” وهي محامية مرموقة تواجه مصاعب في مهنتها، وتعاني من الاكتئاب بعد أن هجرها حبيبها، وصارت تفضل النوم على أي فعل آخر، مما يدفع طبيبها النفسي إلى نصيحتها بالقيام بعمل تطوعي؛ ومن خلال اعلان تشاهده صدفة في الشارع، تتحول إلى كاتبة ترد على خطابات لأشخاص غرباء.

 

صلة الوصل

يتمكن القارئ من ملاحظة كيف يحضر شعر المرأة في رواية ” الضفيرة”، حاملا دلالة رمزية بين النسوة الثلاث، لذا جاء عنوان الضفيرة متوافقا مع فعل التضفير الخاص بالشعر، والذي يدل أيضا على التضافر والمتانة.

الشخصية الروائية الأولى التي تبدأ معها الرواية هي “ساميتا” امرأة هندية من بادلابار، تنتمي لفئة اجتماعية منبوذة، يُنظر إليها بدونية من باقي الطبقات لأنها تعمل في مهن دنيا. توارثت ساميتا عن أمها العمل في تنظيف مكان التغوط في بيوت الطبقات الأعلى؛ وللتوضيح تشدد الكاتبة على أن الأماكن التي تنظفها “ساميتا” عبارة عن حفرة في الأرض، أي أنها بيوت من دون حمام ، تعمل ساميتا في هذه المهنة منذ كانت في السادسة من عمرها، وتصف نفسها بأن رائحة البراز علقت في مسامات جلدها فلا يمكن أن تزول عنها مهما اغتسلت، لكن بالنسبة لها ثمة شيئا واحدا يعنيها في هذه الحياة وتكافح من أجله وهو تخليص ابنتها الوحيدة ذات الأعوام الستة من أن تلاقي عين المصير. تقوم ساميتا بمحاولة إرسال طفلتها إلى المدرسة وهناك يكون على الطفلة مواجهة واقع قاس آخر يجعلها ترجع إلى البيت منكسرة.

في لقائها مع برنامج  “La Grande Librairie “، اعتبرت كولومباني أنها في هذه الرواية تقدم وجها من وجوه الحياة مسكوت عنه ويجهله الكثيرون. وقائع مأساوية في حياة نساء مجهولات، أيا كانت انتماءاتهن أو بلدانهن، حيث هناك جيوب خفية يتم وضع الأحزان في داخلها إلى أن تنتفخ ويصعب مداراتها. وذكرت أنها قامت بالعديد من الأبحاث عن طائفة ” الداليت” الهندية، كي تتمكن من كتابة شخصية سامنتا.

الشخصية الثانية في الرواية هي جوليا، امرأة ايطالية تعيش في صقلية مع أسرتها التي تمتلك ورشة لصناعة الشعر المستعار، وتحويله بعد جمعه من عند المزينين إلى شيئ قيم يليق بأن تضعه النساء على رؤوسهن ، تعيش جوليا وسط نظام تقليدي بطريركي رغم كونها امرأة أوروبية، إلا أن مجريات الواقع من حولها يدل على مدى التحكم في حيوات النساء ، تكتشف جوليا بعد موت والدها حقيقة حال الورشة المهددة بالإغلاق ويكون عليها أن تقاتل حتى آخر رمق كي لا تخسر ما بنته أسرتها أبا عن جد. تبدو جوليا شخصية غير نمطية في مجتمع يُحتم عليها الانصياع لتقاليده وأعرافه في العلاقات بين البشر .. تدخل جوليا في علاقة حب مع كمال وهو شاب هندي من طائفة السيخ، يلفت نظرها شعره الطويل وتعرف أنه محرم عليه قصه، تتخيل جوليا لو عرف أفراد أسرتها بحبها لكمال، كيف سينظرون لها وهي تقف إلى جانب هذا الشاب الأسمر؟

أما سارة وهي الشخصية الثالثة في الرواية، تُعتبر نموذجا للمرأة المعاصرة، وتبدو أكثر الشخصيات الثلاث تركيبا على المستوى النفسي. تعيش سارة في مونتريال مطلقة ولديها طفلين، وهي محامية شهيرة تعمل في أحد المكاتب وتتقاضى راتبا كبيرا. يمكن وصف سارة بأنها المرأة الحديدية  التي تحيط حياتها بقدر هائل من السرية كي لا يتمكن أي شخص من اختراقها ومعرفة أي نقطة ضعف لها. ليس لديها أصدقاء ولا تقيم وزنا للعلاقات الإنسانية، بل تتعامل معها بتعال، مهووسة بعملها، وصورتها كمحامية لامعه وتتفانى بكل ما لديها من طاقة للحفاظ على هذه الصورة. لكن كل شي يتبدل بعد أن تظهر أعراض مرض السرطان على جسدها .. النسيان، عدم القدرة على الانضباط، نوبات الألم الساحقة؛ ورغم هذا تُصر سارة على تجاهل هذه المعاناة والاستمرار في القيام بعملها، لكنها تنهار وتلمح من زملائها في المكتب  تلك النظرة المليئة بالشفقة الممزوجة بنوع من الشماتة.. هكذا يأتي الانكسار في حياة سارة من عدم امتلاكها للتعاطف، وبالتالي عدم حصولها عليه في اللحظات الحرجة، أيضا في الكشف عن المفردات الدقيقة  للحياة في العالم الأول حيث الواقع الاستهلاكي الطاحن والمتجاوز للمشاعر والعلاقات الإنسانية، فالغلبة دائما لمضي سيرورة العمل على حساب أي شيئ آخر.

حاولت ليتيسيا كولومباني أن تضفر حيوات هؤلاء النساء في ضفيرة واحدة، ورغم أنهن لا يلتقين أبدا إلا أن مصائرهن تتقاطع في شكل غير مرئي، في حبكة يتم تضفيرها بين الهند، وإيطاليا، وكندا، بغرض الكتابة عن تاريخ من المعاناة والوحدة والانكسار والعبودية. ربما ما بدا غير منطقي قليلا من الجانب الفني هو العبور السريع على مصائر النسوة الثلاث، حيث بدت هذه النقطة في حاجة لمزيد من التبئير بعد خوضهن غمار رحلات نفسية كاشفة أكثر للحياة الحقيقية التي يطمحن إليها. لكن تظل الروح الحرة هي التي حكمت مسارهن جميعا ووحدت بينهن، التوق إلى الحرية هدف في حد ذاته لكل منهن مهما كان الوضع مأساويا من الخارج إلا أن كل واحدة فيهن قالت ” لا” على طريقتها الخاصة.

إن قراءة رواية “الضفيرة”، ومشاهدة حوارات التي أجرتها كولومباني يكشف أن الشخصيات الثلاث بعيدة تماما عن واقع الكاتبة، لا تبدو بطلاتها محملات بأي شيء من حياتها، هي كاتبة تعيش في باريس، وتمتهن الكتابة وبعيدة تماما عن المهن اليدوية،لذا لم تتسرب أي تفاصيل من واقعها إلى الرواية . بينما ينعكس أثر كتابة السيناريو على  أسلوب الكاتبة هذا يمكن ملاحظته في استخدامها صوت الراوي العليم، وفي الوصف، وقدرتها على نقل المشهد الخارجي بما يتضمنه من حوارات ومونولوج داخلي، وتكثيف الحدث بالقدر الذي تريده، وسرعة الانتقال، أيضا القدرة السلسة على  التشويق غير المبتذل الذي يُمكنها من الاحتفاظ بالقارئ.

لعل الجدير بالملاحظة أن رواية ” الضفيرة” من نموذج الأعمال الأدبية التي يحتاج إليها القراء بين حين وآخر. إنها رواية نسوية بامتياز وتخاطب النساء وتدعوهن بأسلوب هادئ إلى الإيمان بقدراتهن الداخلية، لا يمكن القول بأنها رواية خارقة، إنها رواية قصيرة ممكن قراءتها في جلسة واحدة، لكن من جانب آخر هي رواية خاصة تفرد مساحة للكشف عن عوالم نسائية غير مألوفة يتم الحديث عنها في نص إبداعي.

   د.لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى