غرفة المسافرين ونظرة إلى الجميل تكون خطرة أحيانا
ربما يبدو للوهلة الأولى عند قراءة عنوان “غرفة المسافرين ” للكاتب الروائي عزت القمحاوي ، أن هذا النص كتاب يحكي عن تجربة السفر فقط، بما فيها من ارتحال وغموض وشفافية وتحليق، بيد أن القارئ سرعان ما يكتشف أن جمالية الكتابة تكمن في انفتاحها على أكثر من معنى وعبرة، على قدرتها السافرة لعبور جدار القلب بغرض التقاط زفرة السائح الأخيرة.
تمضي نصوص “غرفة المسافرين” ( الدار المصرية اللبنانية – القاهرة ) الأربعين، في أفق متحرر من اقتباس محور واحد للحديث عنه والإيغال به فقط، فمن خلال فلسفة الرحلة وفن العمارة وسحر الروايات ونداء الأماكن تستمد هذه النصوص خصوصيتها عبر الانتقال الفني السلس بين حياة وأخرى وفن وآخر.إنها نصوص مفتوحة على فتنة السفر وعزلة القارئ والكاتب في آن واحد، كل هذا يتجاور مع سؤال ممض عن رغبة الحياة المتجددة سواء في البقاء أو الرحيل.. هذه الرغبة تتجلى في المزاوجة بين ما يراه الراوي في نص ابداعي، وما هو مشاهد في الواقع حقا، أيضا مع ما تستدعيه الأماكن بانفتاحها وغموضها وتجليها للعين الرائية، هذا ما نجده مثلا عند الحديث عن نص “أن ترى”، وما فيه من تفسيرات لرواية “الموت في فينيسيا” لتوماس مان، و كون ” السفر تحديقة، نظرة إلى الجميل تكون خطرة أحيانا”. المكان هو مدينة فينيسيا العائمة على سطح الماء، والأبطال هنا يحضرون من أزمة مختلفة، شهود على الرحلة وولع السفر، لا يقف القارئ على تفاصيل الأماكن في كتابة القمحاوي، بل على انعكاس ظلالها على البشر، ماذا تفعل المدن بهم، وكيف تترك بصمتها داخل أرواحهم.
وإن كان في السفر تمثيل للموت، في الرواح والإياب في الاحتمالات المُشرعة على المجهول، فإن ” رحلة الفرار الوحيدة التي تكللت بالنجاح هي رحلة نوح، وقد صارت بمثابة خلق ثان للعالم، لكن القدر لم يقرر منح جائزته لهارب آخر ” .
يعتبر الكاتب أن أحد أهداف السفر هو الفرار من الموت، وأن هذا الوعي حاضر بشكل خفي ودائم منذ رحلات الهروب في الميثولوجيا الإغريقية، مرورا برحلة جلجامش، وصولا إلى سؤالٍ يطرحه الكاتب على لسان بطله في رواية “يكفي أننا معا” حول إن كان يوجد موت في مدينة جزيرة كابري الإيطالية التي يقصدها السياح للمتعة الصافية، فيأتيه الرد : ” موجود لكن السياح لا يتوقعونه”.
الكتابة عن السفر في نصوص ” غرفة المسافرين”، يحمل تعرية كاشفة للروح في علاقاتها الإنسانية الأعمق يقول الكاتب: ” السفر اكتشاف لأنفسنا أكثر مما هو اكتشاف للمكان المختلف”، يأتي تأمل هذه العلاقات عبر دفقات واضحة من نصوص حية تزيح الستار عن مشاهد حقيقة في الذات الجوانية.. السعي للسفر أحيانا يكون بغرض رأب الصدع في علاقة تتصدع، فتكون الرحلة خارج المكان المألوف غرضا لإعادة ما تباعد من الوداد، لكن السفر قد يوغل في الألم أكثر حين يزيد من حدة البعد، أو يؤكد على حدوث النهايات التي لا يرغب أحد بالاعتراف بها. هذه التأملات في العلاقات الإنسانية تحضر في كثير من النصوص مع ما يتداخل معها من أعمال أدبية تُعيد شبك مفهوم الرحلة بالغواية والتحرر بالألم كما في رواية ستيفان فايج “أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة”، ونوفيلا أنطوان تشيخوف ” السيدة صاحبة الكلب”.
عبرة الحقيبة
السفر هو انصات صادق للحواس، لأوجاع الجسد ومسراته لخوفه الأزلي من هزائم الزمن، شعيرات بيضاء يكتشفها المسافر في غرفة الفندق لا يلاحظها في زحام حياته اليومية. تضيق الهوة بين المسافر وجسده خلال السفر بسبب التخفف من ثقل الحياة اليومية، وخفة التخلي عن ما لا يلزم. هذه الخفة تحضر في هوية الحقيبة وكينونتها غير الثابتة.
في الجزء الذي يحمل عنوان ” عبرة الحقيبة” وضمن أربع مقالات تحت عنوان ” تكثيف الوجود” ” أرني حقيبتك كي أراك” ” رفيقك الصموت” ” مشاعرها”، يتوقف الكاتب أمام تحليل علاقة المسافر بحقيبته وتفاصيلها، لونها حجمها شكلها نوعها.الحقيبة في السفر تكشف للغرباء الكثير عن المسافر،ذوقه، عنوانه، مستواه الإجتماعي. الحقيبة في رواية ” الأبله” لدوستويفسكي هي صرة ملابس صغيرة يحملها الأمير ميشكين وتلخص رثاثة حاله منذ بداية الرواية. أما الحقيبة في رواية إيتالو كالفينو ” لو أن مسافرا في ليلة شتاء باردة” فإنها تصبح عبئا ثقيلا بالنسبة لصاحبها.
في مقالة ” رفيقك الصموت” يقول : ” المسافر الأقوى هو الذي يتحكم بلحظات غضبه ويعامل حقيبته برفق ولا يغتر بصمتها، فهي لا ترد على كل نأمة تذمر، لكنها تختزن مشاعر الضيق، وتخرجها دفعة واحدة، كأن تتمزق وتكشف أسراره، أو تتخلف في المطار، ثم تعود متأخرة أو لا تعود”
لا يتوقف القمحاوي في كتابته عن الحقيبة عند حدودها الفيزيائية ، بل يتشعب في تتبع مدلولاتها التاريخية والجغرافية التي تنفتح على انتشار المصريين غربا إلى ليبيا وشرقا إلى العراق ودول الخليج، إنها الغربة العملية بحثا عن الرزق، لكن السفر الراسخ في قسوته سيكون لأولئك الشبان الذين يفكرون بمغادرة قراهم عن طريق البحر للتسلل إلى أوروبا، حقيبة ظهر المسافر يجب أن تتقلص محتوياتها إلى الحد الأدنى اللازم للحياة، و” قد يعود ذلك المسافر إلى بلاده بعد سنوات طويلة بصحبة أكثر من حقيبة سعيدة جديدة لا تعرف شيئا عن رحلة ذهابه الصعبة”
من بوخارست إلى روما وفينيسيا وصنعاء ومرسى مطروح والقاهرة وغيرها من المدن والأماكن يتتبع الكاتب خطوات المسافر في تيهه المقصود، وضلاله المُرتجى، السفر لاكتشاف المكان والذات هو الغاية بحد ذاته ، لكن التعمق بفكرة السفر تكشف حلول وجوه كثيرة له، لا تقتصر على حال واحد، بل لا يمكن أن تحمل ثباتا في يوم من الأيام، سفر السائح بغرض العلاج، يختلف عن المسافر إلى مؤتمر، أو المسافر تسللا لبلد بعيد بغرض عدم العودة مطلقا.أغراض المسافر تختلف من شخص لآخر، ومن رحلة إلى أخرى، لكن في النتيجة وكما يرى المؤلف فإن السائح الصالح لديه استعداد طبيعي للسعادة، للاكتشاف على الرغم من أن السائح لا يعيش الحياة الحقيقية للمكان الذي يرتاده بل تمثيل للحياة في البلد الذي يقصده.
في المقالة الأخيرة التي حملت عنوان ” وغدا تقوم الساعة”، نرى أثر ظلال العولمة وما تفعله بالمسافر الذي يسارع إلى بث مشاهد من أوقات سفره لأصدقائه الواقعيين والافتراضيين ربما بشكل مباشر على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي، هناك أيضا استقراء لتغير عادات المجتمعات المحلية وطقوسها كي تُرضي أذواق السياح الساعين دوما لاكتشاف المغاير كي يعودوا من رحلتهم ويكون لديهم ما يتحدثون عنه.
د.لنا عبد الرحمن