جوخة الحارثي وأصداء ما بعد “المان بوكر”
بعد إعلان فوز الروائية العُمانية جوخة الحارثي بجائزة المان بوكر الدولية عن روايتها ” سيدات القمر”، تعالت أصوات مبتهجة بوصول أول كاتبة عربية لهذه الجائزة ، لكن قبل مرور أربع وعشرين ساعة على هذا الفوز ، أي لم يكن قد مر وقت كاف لقراءة روايتها ممن لم يقرأها، وقول الرأي بشأن النص، حتى ظهرت أصوات اخرى مستهجنة فوز الكاتبة، وبدلا من الفرح بفوز كاتبة عربية بجائزة عالمية، كان من الأسهل الغمز واللمز المؤذي، سواء عبر المقالات، أو عبر وسائل التواصل الإجتماعية حول أحقية الفوز. أول ما قيل جاء عن جودة الترجمة التي جعلت الرواية تحصل على الجائزة العالمية. قامت بالترجمة المترجمة والأكاديمية مارلين بوث التي نقلت الرواية إلى الإنكليزية تحت عنوان : ” أجرام سماوية”، لأن عنوان “سيدات القمر” له دلالة مختلفة في الإنكليزية عنه في اللغة العربية، وغاب عن القائلين بأن جودة الترجمة سبب للفوز، أن المترجم ينقل العمل الروائي بشكل متكامل، بما فيه من مضمون وحبكة وشخصيات، وتصاعد حدثي، وزمان ومكان. وليس من المنطقي الاستناد إلى عنصر واحد فقط أي: ” اللغة”، لنيل الجائزة.
وجدير بالتأمل ما قالته بيتاني هيوز، رئيس لجنة تحكيم الجائزة، عقب الإعلان عن نتائج المسابقة: “عبر تداخل مصائر شخصيات الرواية، نتعرف على المجتمع العماني بمختلف طبقاته وفئاته .. من أفقر أفراده إلى الأثرياء الذين ظهروا حديثا في عمان ومسقط.. تبدأ الرواية من حجرة صغيرة لتنتهي في عالم أرحب. إن إيقاع الرواية أهدأ من الروايات الأخرى التي وصلت للمرحلة النهائية من المنافسة،كأنها دراما محلية تدور في عالم ساحر، ولكن مع الشحنات الفلسفية والنفسية والشعرية التي تحملها الرواية ، ينجذب القارئ إلى السرد، من خلال العلاقات التي تربط الشخصيات. لقد شجعتنا الرواية على القراءة بطريقة مختلفة قليلاً “.
* * *
لم تستوعب تلك الأصوات المستهجنة عبور كاتبة عربية وخليجية إلى العالمية من دون المرور عبر لوبيات الثقافة العربية، كاتبة لا تنتمي لدول المحور، وتكتب بعيدا عن الضجيج والحضور الإعلامي الصاخب، ولا تنتمي لأي شلة ثقافية، وفوق هذا تصل إلى جائزة عالمية. لم يراجع هؤلاء إنتاج الكاتبة الإبداعي، أو تاريخها الثقافي، واكتفوا بالحديث المعيب عن أموال الخليج وما لها من تأثير على الجائزة، وهذا عار من الصحة مع جائزة عالمية مثل المان بوكر، ظهر حكامها وتحدث كل منهم بشفافية عما رآه من جماليات فنية في رواية “سيدات القمر”.
لم تأت جوخة الحارثي فجأة إلى عالم الأدب، فقد صدر لها ثلاث مجموعات قصصية، وثلاث روايات هي : ” منامات”، ” سيدات القمر”، و”نارنجة”، التي نالت عليها جائزة السلطان قابوس، حصلت الكاتبة على درجة الدكتوراة من أدنبرة حول موضوعها ” الجسد في الشعر العذري”، وتعمل أستاذ مساعد في جامعة السلطان قابوس، قامت جوخة أيضا بجمع وتحقيق ديوان شعر كلاسيكي لجدها الشيخ ” أحمد عبدالله الحارثي.”
لقد كشفت ردود الفعل السلبية لوصولها للجائزة، عن نمطية الذهنية العربية في رؤيتها لنفسها وللآخر، والأهم للمرأة. سيتقبل الوسط الثقافي العربي مثلا فوز أي كاتبة مشارك في المان بوكر الدولية- رغم عدم قراءتها من قبل- من دون أن تتعالى التعابير المستفزة والمشككة. لم يظهر من يتحدث عن مضمون رواية ” سيدات القمر” إلا قلة قليلة تعرف الكاتبة وقرأت لها، وتابعت رحلتها الأدبية.. أما من لا يعرفون مسيرتها، ولم يقرأوا لها، فقد ظهروا ليتحدثوا عن تفاصيل أخرى لا علاقة لها بالرواية الفائزة. ذكر أحد الكُتاب على صفحته في الفيسبوك اعتراضه على أن الكاتبة محجبة، مع تنويهه بأنه لم يقرأ الرواية، وجميعنا نعلم أن الحجاب في المجتمعات الخليجية هو جزء من الثقافة الإجتماعية، أكثر من أي دلالة دينية. وتحدث كاتب شاب باستهزاء عن كتابة المرأة مجاهرا برأيه بوضوح بأن الكاتبات ليس لديهن موضوعات جيدة للكتابة، بينما عبر كاتب آخر عن رأيه بسخرية في احتمالية حصول كاتب خليجي على جائزة نوبل.
التوقف أمام فكرة كتابة المرأة، أمام الحجاب، أمام الإحساس بالفوقية على الآخر، كلها أمور تحتاج إلى مراجعة من الفئة التي تعتبر نفسها مثقفة، وتحمل شعار التنوير في العالم العربي. الإختباء وراء إصبع، وتجاهل ما يحدث من تحولات في هذا العالم لن يجدي نفعا، لأن هذا التجاهل بالإضافة إلى ذهنية الثقافة العربية المحكومة بالشللية والمنافع الضيقة والمتبادلة، إلى جانب سيطرة الأكثر مبيعا، وفرق الألتراس الإلكترونية الموجهة للترويج لكتب بعينها. لن يؤدي حتما كل هذا لأي تقدم فكري أو أدبي.ليس فقط لأن ظهور العولمة جعل للجغرافيا مفهوما مختلفا، بل أيضا لأن حركة التاريخ وتحولاته لا تستقر على حال، سواء بالنسبة للمتن أو للهامش.
سيدات القمر
تتميز “سيدات القمر” بقدرة سلسة على توظيف التاريخ العماني، بما يتقاطع مع التطور الاجتماعي والجغرافي في سلطنة عمان؛ ترتبط شخصيات الرواية بالأماكن، وتترك آثارها فيها، تحكي عنها، تصفها في كل ما يحدث لها من تحولات زمنية؛ لذا لا يمكن الحديث عن المكان في هذا النص دون التوقف أمام الشخصيات الرئيسية التي تمسك زمام الأحداث.
يتنوع المكان بين قرية “العوافي” ومدينة “مسقط”، حيث ترصد الكاتبة بعين حساسة علاقات إشكالية، تنسجها من خلال مهارة في الوصف الداخلي والخارجي، عبر تطور الشخوص وتنقلاتهم الزمانية والمكانية، وحالات تجاذباتهم النفسية وتحول مواقفهم من الحياة؛ إذ لعل أهم ما ترصده هذه الرواية أيضا تأثير التطور الحضاري، والعمراني على السلوك الفردي بالنسبة للمرأة والرجل على حد سواء. سيلاحظ القارئ هذا الأمر منذ الصفحات الأولى، حين ترفض البطلة “ميا” أن تلد على يد نساء القرية، وتصر على أن تضع مولودتها في المستشفى رغم سخرية أمها من هذا الفعل.. تقول الأم: (اذهبن أنتن إلى مستشفيات مسكد، تصبحن فرجة للهنديات والنصرانيات)”.
رغم أن “ميا” ستبدو – مع تتابع الأحداث- شخصية ذات آراء تنتمي للزمن القديم، إلا أن “ميا” في زمانها يتم النظر إليها على أنها حداثية مقارنة طبعًا بأمها والجيل السابق. يمكننا القول إن “سيدات القمر” تعمد إلى تأمل التطور السريع المتلاحق في الذات العُمانية خلال تحولاتها المدنية، عبر متابعة تفصيلية لسلوك الأبطال ومواقفهم من الحياة في اختياراتهم الشائكة أحيانا، كما فعلت “لندن” ابنة “ميا” حين تخفق في اختيار زوجها، رغم تحديها لعائلتها وفرضه عليهم، إلا أنها تعود وتخلعه لتتخلص من عقبة وجوده المؤلم في حياتها، لتواصل طريقها من جديد.
د. لنا عبد الرحمن