الحرب ولعنة المصير في “إبرة الرعب”
لا تنحصر نتائج الحرب في بقعة مكانية معينة تدور فيها، بل إن شظاياها تعبر الحدود والفضاءات لتخترق تراب مكان آخر، وتترك نيرانها على أرضه.. هذا ما يمكن استنتاجه أيضا في رواية ” إبرة الرعب” للروائي الناقد هيثم حسين ( الصادرة عن منشورات ضفاف / الاختلاف ببيروت ) حيث يتطرق إلى أكثر من منطقة شائكة في السرد تنعكس فيها ظلال الحرب الواقعية والنفسية، الحرب بدلالاتها ونتائجها على الأرض، والحرب كصراع نفسي، وبينهما يمتد خط سرد طويل لمفهوم العلاقة الشائكة بين الذكورة والأنوثة، حيث كلاهما يحضر في النص من جانب حرب الهوية والانتصار للأقوى. تعكس الحرب اللبنانية آثارها على من يعيشون في قرية بعيدة في القامشلي، التي تقع على حدود العراق؛ونرى ارتحال أحد أهالي القرية (موسو) إلى أتون تلك الحرب حيث يعود منها مشوها جسديا ونفسيا..
تبدأ رواية ” إبرة الرعب” مع رضوان ابن موسو اللبناني، ينال موسو لقب اللبناني لأنه أمضى أعواما في لبنان، يحارب مع أطراف شتى، وعاد بأصابع مبتورة، وأذن مثلومة، ليعيش صامتا في قريته، لا أحد يعرف حقيقة ما تعرض له، ربما موسو نفسه لا يعرف الأسباب الحقيقية لما وصل إليه، لكنها الحرب الفعلية، التي لا ترحم، حيث لا مسببات لها، ولا نتائج سوى الدمار الذي يعيق عن المعرفة.
الراوي للنص الذي يبدأ معه السرد هو رضوان الذي يعرف باسم الممرض، نسبة إلى مهنته ، وهو يقدم نفسه بأنه يتعرف للعالم عبر ” المؤخرات” التي يحلل شخصية أصحابها، وينتقم منهم بتعريتها عبر استخدامه ” إبرة” هي ظاهريا للشفاء، لكنها ضمنا وسيلة للانتقام، هنا يمكن ربط دلالة ” الإبرة” التي ترد في عنوان الرواية بمفهوم الحرب، “الإبرة” هنا هي الأداة التي يستخدمها رضوان، مستعيضا عنها بالبندقية التي استخدمها والده موسو في الحرب اللبنانية. يحارب رضوان أهل القرية بطعنهم بإبرته الشهيرة، التي تدور من بيت إلى بيت، ينتقم من كل من سبب له ولعائلته الأذى.
غادر موسو القرية لأنه ضرب مزارع بمنجل وظن أنه قتله، قيل عن موسو أنه غادر إلى لبنان، وشكل عصابة مسلحة في أيام الحرب، قيل انه لُقب بالجزار، ويقوم بكل أنواع الجرائم، حكايات كثيرة تم تداولها عن موسو، لكنها ظلت من دون أي دليل، لأن موسو يتحول إلى شخصية أسطورية الأبعاد لا يمكن أن يكشف سره وحقيقة ما فعل خلال غيابه في لبنان، أو مع من تعامل حقا، أو إن كان عميلا لأي حزب أو تنظيم أو جيش.
تضيء إبرة الرعب على أحداث الحرب اللبنانية، عبر شخصية موسو، وما حدث فيها من بشاعات، بيد أن الإضاءة الأكثر مركزية للحرب النفسية يمكن رصدها مع شخصية الابن وهو البطل السارد رضوان الذي تنطلق منه لعبة السرد. والذي يعيش عقدة الأب الغائب، وعقدة أخيه كاوا، الذي يصغره بسنة وثلاثة أشهر. كاوا كان متفوقا في دراسته على عكس رضوان، الذي كره المدرسة. لكن كاوا المجتهد وبعد تعرضه إلى حادث عابر إثر حجر يُلقى على رأسه وهو في الصف السادس الابتدائي، يتغير تماما، يصير صامتا لا يحب مغادرة البيت، لكن فجأة تنتابه نوبات غضب شديدة، وفي أوقات أخرى يقول عبارات حكيمة لا تصدر سوى من رجل عظيم. حالة كاوا تلك أعيت الأطباء والمشايخ، فلا هو بمجنون ولا بعاقل، يشكل كاوا دلالة رمزية متناقضة لشخصية رضوان التي يغيب عنها البعد الإنساني في كل المواقف الحياتية.
تعلم رضوان التمريض في المستشفى العسكري، تعلمه ارتجالا عبر الرغبة والمتابعة والنظر، وكانت الليلة الحاسمة بالنسبة له يوم أسرع أحد الأهالي حاملا ابنته لاسعافها، ولما تمكن رضوان من انجاز المهمة، تحول إلى ممرض رسمي لأهل البلدة، يمارس عبر التمريض انتقاماته على هواه؛حيث يستحيل على أهل القرية أن يفكروا بأن رضوان يؤذيهم بأدويته، وبأن الأدوية التي يزودهم بها سببت مثلا اجهاض شموسة الولود. فالدواء بالنسبة لهم يشفي، ولا يمكن أن يؤذي. شموسة التي وضعت ولديها الثاني والثالث وهي تربط كومة القش، لا يمكن أن يكون سبب اجهاضها أدوية الممرض رضوان، لأنه من خلال الإبرة الملعونة يحقن شموسة أيضا بعد أن تسبب بإجهاضها، ثم يعود إلى البيت ويقول لأخية كاوا بأنه انتقم له، إذ لولا عرس شموسة ما كان أخيه أصيب بحجر في ذاك اليوم ومرض بالخبل. هكذا كانت رؤية رضوان للعالم، محملة بالمرارة والألم والحقد.
يصف الراوي أجواء القرية، وبساطتها، وكيف تخصص كل فرد فيها بتطبيب جزء ما من الجسد البشري،فالملا هو الملاذ الأخير لمن يفقد الأمل يقوم بالرقا والأحجبة، وتلجأ اليه العاقرات ليساعدهن على الانجاب، والعجائز لمساعدتهم على الانتصاب، رغم أن كل أدويته رقى ودعوات، لكن حين يأتي رضوان بمهنته كممرض يضرب كل تلك التخصصات لأفراد القرية، للعجوز بريكه، وللملا، حيث اقتنع الجميع أنه لا يمكن للحياة أن تستمر من دون إبر الممرض رضوان.
*مركزية الذكورة والخصاء
يرتبط الراوي بعلاقة مع قريبته روناك، لكن والدها يسعى لتزويجها من أحد معارفه، لذا يفر رضوان إلى الخدمة العسكرية رغبة منه في تناسيها، لكن رضوان لا يبدو محملا بأي مشاعر انسانية سواء نحو روناك أو غيرها، فلا يتوقف الراوي السارد أمام اي ملمح عاطفي في شخصيته، هو لا يهتز له جفن أمام أي حدث مهما عظم شأنه مثلا : يقتل رضوان جولا الفتاة المخبولة التي اعتادت التردد على المستوصف، يجز رقبتها بعد ان يضاجعها لمعرفته أنها حامل منه، يبرر فعلته بأنه يرحمها من العذاب الذي ستتعرض له حين يكتشف حملها، في حين أنه يقوم بهذا ليتجنب ما يمكن أن يحدث له من مواصلة رؤيته لها بعد أن تضع وليدها منه.
ورغم ما في هذه الصورة من دلالات مفجعة تكشف كم الشر والألم المدفون في داخل رضوان، إلا أنه من الجانب الفني غاب عن النص تقديم رؤية كاشفة للحظة تعاطف واحدة في حياة رضوان، فيما عدا موقفه من أخيه كاوا، الذي لا يمكن اعتباره تعاطفا انسانيا بقدر ما هو رغبة بالانتقام للعائلة ككل من الأذى الذي تسببت به القرية لموسو وزوجته خجو، وولديهما رضوان وكاوا.
في الفصل الثالث تحكي الأم عن سنوات السبعينيات، وعن حملها بكاوا،وعن زوجها موسو، يبدو سرد الأم مكثف يختصر سنوات، ويحمل في ثناياه الكثير من الألم، على النقيض من سرد رضوان المحمل بالسخرية. لنقرأ “اعرف القرويون تماما، لا يعجبهم العجب، لكنهم ينسابون تماما أمام الهدايا، يبدؤون بكيل المدائح، أغدو في نظرهم المنزه عن الخطايا كلها. يتناسون مؤقتا ما يعيرونني به في مجالسهم، يصفونني ابن الأخرس، وابن القبيحة، وأخي العبيط”. ص 71
يتداخل في السرد صوت الأبطال مع صوت الراوي العليم، يسرد الراوي أحداث الماضي علاقة موسو وخجو، زواجهما، وتسرد خجو حكايتها مع موسو بصوتها ورؤيتها له. منح هذا التداخل في السرد رؤى مختلفة للشخصيات والحكايا، موسو الذي يبدو صامتا وغامضا، تكشف علاقته بزوجته خجو أن الصمت سيد كيانه، وأن براعته بفعل الحب تسيطر على وجوده، وتأسر المرأة التي اصبحت زوجته رغم كل ما يقال عنه في القرية، ورغم غيابه وعودته،كانت تجد في حضنه الدفئ المفقود، وكان يجد لديها الملاذ الآمن.
هناك شخصيات هامشية مثل أبو الويل، مانديلا، المخدر محمود، والعقيد، الذي يعمل في المستوصف ويحرص على ارتداء بذلته العسكرية وإشعار من حوله بأنه هام، يستذكر أيام الوجود السوري في لبنان، وكيف كان يتسلى بوضع الحواجز أينما يعن على باله في لبنان ، ويتسلى باغلاق الطرقات بحجج واهية بل إنه لم يكن يفتح الطرقات إلا بعد وساطات كثيرة وهدايا. . يكشف رضوان أيضا عن فساد المشفى الوطني، وسرقة كلية المجنون شفكارو، بحجة أنه يستطيع العيش بكلية واحدة، فالممرض رضوان بمساعدة المخدر محمود يعيدون يعيد توزيع الأعضاء على البشر، ويقومون بعمليات غير شرعية، وفق مبدا أنهم يساعدون البشر، بينما الحقيقة أنهم جزء لا ينفصل عن حرب اجتماعية شرسة، الغلبة فيها للأقوى والأكثر فسادا.
ثمة شخصيات أخرى توازي دور رضوان في السرد، كما في شخصية ” نضال”، الشاب المتحول جنسيا إلى امرأة. يعاني نضال من عقدة جنسه كرجل،ويقرر أن يقوم بعملية خصاء متحولا إلى امرأة. وهنا يمكن الوقوف على فكرة “مركزية الذكورة” التي يقول فيها الفيلسوف بيير بيدرو، هنا تبدو المركزية منتهكة، حين يقرر نضال بتر عضوه الذكري، ومواجهة واقعه الجديد كأنثى. لكن حتى هذا الخيار لا يبدو أنه يحقق السعادة المرجوة لنضال،الذي عاش محبوسا في جسده طوال حياته، حين كان رجلا،أو امرأة.
لعله من المهم التوقف في رواية ” إبرة الرعب” أمام واقع تقديم رؤية للمجتمع الكردي في سوريا، وإن لم يقدم الكاتب خصوصية هذا المجتمع في العادات أو التقاليد، بل برز حضور الهوية الكردية فقط عبر أسماء الشخصيات، وغاب عن النص رصد الشخصية الكردية من الداخل، بل بدت كل الأحداث والشخصيات قابلة للحدوث ضمن أي مجتمع عربي محكوم للفساد والبيرقراطية، وآلية العنف، سواء الجسدي أو النفسي.
د. لنا عبد الرحمن