هدوء القتلة لطارق إمام .. رواية القتل والمدينة

 

“هدوء القتلة” هو عنوان رواية طارق إمام الصادرة عن دار ميريت،والتي تبدو مختلفة في عالمها السردي عن روايته السابقة “شريعة القطة” التي شكل فيها عالما فانتازيا بطلته قطة تخوض مغامراتها في أماكن وعوالم مختلفة تخضع كلها لشريعة القطة وقانونها.

في “هدوء القتلة” ينحو إمام إلي تكوين أجواء مختلفة تماما تتداخل بين الأسطورة، والتخييل،والواقعية السحرية.فالبطل سالم  في هذه الرواية يحمل تيمتيين تبدوان متناقضتين في الظاهر(القتل والشعر) فهو يقتل بيد،ويكتب باليد الأخري،بعبارة أكثر دقة هو يقتل ليكتب.من هنا ندخل إلي عالم الرواية،عالم الهدوء البارد للقتل،حيث المفارقات التي تبدأ مع مفردات صغيرة مثل اسم البطل (سالم) الذي لا يمت شخصيته،ثم ازدواجيته في الحياة ضمن عالمين يتنقل فيهما بصدق تام،فيكون مخلصا لكليهما.

تبدو علاقة التاريخ والأسطورة في رواية”هدوء القتلة” ظاهرة بوضوح،فالكاتب يحاول في كتابته القدوم للتاريخ بشكل عكسي،هو لا يذهب إليه،بل يحضر ومضات تاريخية إلي نصه،ثم يتلاعب بينها وبين عنصر الزمن كأن يقول في الصفحات الأولي “كل صباح كان يمد أصابعه الخشبية النحيلة نحو المجلد الضخم غرامه السري..كان يتأمل المدينة التي صارت مكاناً آخر غير الذي وطأته قدماه منذ ما يزيد علي ألف سنة،لقد كانت-حين جاء حافيا تحت شمس قوية-أشبه بدير خال لا يحتاج الناس فيه إثما كي يتعذبوا”.يمنح طارق إمام بطله خلفية تاريخة أسطورية،تظل معلقة بين الممكن والمستحيل،ثم يطلقه ليمضي حياته بشكل واقعي تماما كما لو أن ما حكاه عنه من قبل مرهون بخيال القارئ وقدرته علي تفعيل هذه المعرفة في اكتشاف غموض النص.يعرف بطله “سالم “أنه ينحدر من سلالة قاتل ما،قاتل “ترك نسلا كثيرا في أرجاء المدينة،أبناء وأحفاد يحملون وجهه،عينيه الملونتين وصوته المبحوح،جميعهم قتلة متوحدون،غارقون في منامات خطرة مثله”.

يستخدم إمام  تيمة الأسطورة بأن يجعلها ماضي الأبطال،هذا ما يفعله حتي في نصوصه القصيرة التي ينشرها كقصص متفرقة أو أجزاء من رواية،وهذا ما يبرز في”هدوء القتلة” في الجزء الأول من الرواية تحديدا،فهو يفترض تاريخا معينا لبطله (القاتل-الشاعر) ثم ينطلق من هذا الافتراض في سرد حكايا المدينة الأسطورية أيضا،مع الاتكاء علي حيلة ذكية في تفسير فلسفة القتل عند البطل،هكذا تصير مكونات الرواية التي تجمع فكرة أسطورة ما مع فلسفة القتل وتاريخ المدينة الحاضر بشكل شبحي،كل هذا يشكل الوجود الفعلي لمدينة (القاهرة)،إنها مدينة تتكون وفق رؤية البطل،ثم تصير هي العامل الأكثر حضورا في النص.فالبطل سالم يقتل من أجل المدينة،من أجل بحثه عن مدينة أكثر هدوءاً وأقل صخباً،وفي ذات الوقت يقتل ليخفف آلام بشر يراهم تعساء وحيدين،المدينة استنزفتهم وألقتهم علي أرصفتها.فالبطل هنا كما لو أنه يقشر المدينة بحثا عن نواتها،والقتل يصير فعلا بحثياً يبرر السعي في التفتيش-قتلا- عن المدينة المتوارية خلف زحام لن ينتهي إلا بمزيد من القتل الذي سيحرر المدينة من قشورها،ويخرج نواتها إلي الواقع،وبذلك هو يؤرخ لها بأسلوبه الخاص،فيغدو القتل في الرواية فعلا بريئاً يشبه كتابة الشعر،ويتوحد معه،حيث لا يمكن علي الإطلاق رؤية بطل “هدوء القتلة” بشكل مجزء،هو يقتل ليكتب الشعر،ويقتل لتصير المدينة أجمل،فهو قاتل صوفي حكيم ينثر رؤاه الخاصة عبر  الحبر والدم ،يقول: “ناسك اختارني لأخلفه في تخليص المعذبين،من عذاباتهم…سلمي،جابر،وليلي…كلهم وحيدون يكملون للمدينة زينتها الضرورية…أنا القاتل الذي يخاطر بحياته ليترك للعالم قصائده كما ينبغي أن تكون،كتبتها يد بلا تاريخ،بدماء الضحايا”

 

بين اللغة والمعني

إذا كان النص ليس إلا لغة تحمل معني،فإن المعني هو الهدف الأسمي للغة،ربما من هنا تقوم العلاقة بين اللغة والحكاية،وفي نص روائي مثل “هدوء القتلة” نتساءل عن حدود الحكاية التي تبرز بوضوح لكنها تتخلي عن مسارها التقليدي لتشكل جوهر وجودها عبر الحالة العامة للنص.

الحدث هنا أو الحكاية،تنقسم إلي شطرين،فعل القتل،وجانب العلاقة مع المدينة.يقول:”طالما أخافتني هذه الضاحية،رقعة شطرنج هائلة..شوارعها مستقيمة ومتقاطعة بلا أسماء.كل شارع تم اختصاره في رقم مكتوب بوضوح علي لافتة زرقاء.تقطع الشوارع صفوف أشجار مهذبة متساوية القامات،آلاف التوائم من الكائنات الناحلة تؤكد التيه.لازلت حتي الآن أتوه في الضاحية،وأضل طريقي إلي الهيئة.فكرت أن أذبح بعض الأشجار لتصير علامات تصنع بعض الفارق،لكنني خفت من عقاب الحي….المدينة التي تبدو ضخمة تحيا هناك،معزولة ومتوحدة،هنا الضاحية،ولا شيء آخر”.

لقد سار طارق إمام في روايته علي خطين بدا ظاهرياً أن أحدهما منفصل عن الآخر،الأول هو خط الحكاية التي وضع خيوطها في الفصل الأول مع شخصية (الناسك-جد القتلة)،ثم الخط الثاني الذي يتولدمع قصة البطل سالم الذي يسحب القارئ إلي مدار مغامراته في القتل علي أرض  المدينة.

يحفل نص “هدوء القتلة” بوجود  عنف مكمون وغموض بين،إلي جانب ظلام متعمد،حتي في أوقات لا ظلام فيها.إنه نص يشبه فيلماً يتحرك أبطاله أمام عين القارئ،ويمكنه تخيلهم بسهولة،بل يمكنه تمييز ملامحهم بدقة،وهذا يعود إلي المخيلة البصرية التي يتمتع بها الكاتب والتي تبدو ضرورية بالنسبة لهذا النوع من الكتابة.

د. لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى