الروائي السوداني منصور الصويم يكتب من منطقة العتمة

 

 

فتيات متسولات، شحاذون، أولاد سوق، وأطفال صغار عيونهم جاحظة. عذاب، انسحاق، كوابيس مرعبة، وبطل الرواية الكسيح (آدم) الملقب بكسحي الملك، يمارس عمله في الشوارع والأزقة، في الأسواق وبين المتاجر والمقاهي. هذا هو العالم الذي ينسجه الكاتب السوداني منصور الصويم في روايته «ذاكرة شرير» الصادرة حديثاً عن الدار العربية للعلوم.

يحكي الصويم عن جماعة من البشر دفعتهم الحياة إلى مستنقع المدينة الآسن، يعيشون على الحافة، ويغامرون بحياتهم ألف مرة من أجل لقمة العيش، ينامون على الإسفلت ويمزقهم الجوع، ثم يأكلون بقايا البقايا، يتعاطون مخدراً رخيصاً إلى أن تمضي بهم الحياة نحو حتفهم.

إنه واقع شديد المأسوية والبؤس، ولكن ليس هذا ما يميز رواية «ذاكرة شرير» وسط الكثير من الأعمال الروائية، بل هناك أمران أساسيان سيطرا على هذا العمل الروائي. أولهما يكمن في البناء السردي المتماسك الذي يشيد معماره في شكل عمودي يتصاعد مع الحدث ولا يخرج عن إطاره. والأمر الثاني هو السرد من الداخل؛ أي أن الصويم منح بطله – عبر استخدام ضمير الأنا في مجمل الرواية، وفي مقاطع قصيرة ضمير المخاطب – القدرة على سرد الحكاية من بؤرتها الأساسية؛ من الشارع الذي تربى فيه بطله، والقص من العالم السفلي لأطفال الشوارع وليس كمراقب لهم؛ للحكم عليهم سواء بالإدانة أو التعاطف. ثمة أمر آخر يسيطر على النص هو القدرة على الإمساك بالقارئ من دون أن يفقد حس التعاطف؛ سواء مع بطل الرواية الرئيس آدم، أو مع الأبطال الجانبيين: مرتوق، أم سلمة، الحجة عشة، وهيبة، رحمة، جاك تويلا، وغيرهم.

يُقسم الكاتب روايته إلى ثمانية فصول؛ تبدأ مع فصل «مثلث الإسمنت» وتنتهي مع فصل «وسوسة إبليس». ينفتح المشهد الأول في النص مع البطل آدم الكسيح وعودته إلى السجن، وإن كان لا يتضح من الصفحات الأولى أن المكان الموصوف هو أحد عنابر السجن، إلا أن هذا ما سينكشف في ما بعد. يصف الكاتب المكان بدقة متناهية تتيح للقارئ تخيله بسهولة، ثم يدلف إلى ذاكرة بطله، منذ طفولته الأولى مع أمه الشريدة «مريم كراتيه» التي يصفها بالأم العظيمة. يحكي عن أيامه القليلة معها بمحبة بالغة تضفي على الوصف نوعاً من الحنين الغائر، وكما لو أن تلك الأيام التي كانت أياماً سعيدة لم تعد في متناول يده الآن. يقول: «الهدهدة، ما كنت أحسه وأمي العظيمة «مريم كراتيه» تضعني على حجرها… تضمني وتقبّلني لأكتشف طعم «السلسيون الفائح» من شفتيها… لا بد أنني كنت أحب أمي، ولا بد أنني أحس الآن بطعم الخسارة المر بفقدها الأبدي… تركتني للشحاذات الصغيرات، وتمضي كي تموت في مبارزة مجنونة، ضد أولاد السوق، الشماسة المتسلحين بخيال مسطول وقوة مخدرة» (ص 8 و 9).

يختصر هذا المقطع طفولة البطل آدم، الطفل الكسيح الذي رعته متسولات صغيرات، استخدمنه كأداة استجداء أكثر فاعلية في التسول. تمضي الحياة به لا بيت له إلا الشارع الكبير، يتحايل على الواقع المر كي يعيش متنقلاً من يد إلى يد؛ ومع الأيام تذوي ذاكرة طفولته ومعها ذكرى الأم العظيمة، ولا يظل قابعاً في ذاته إلا حاضر صلب، شديد القسوة، من دون أن تعوقه قدماه العاجزتان عن الحركة؛ لأن أمه عودته على الالتصاق بالأرض حين كانت تتركه وحده ساعات طويلة. بل إن هذه العاهة التي ميزته عن غيره من أطفال الشارع جعلته في ما بعد أكثر مهابة وهو يجر ساقيه وراءه، ويجعل قدميه تتعارضان وتلوحان وهو يزحف على الأرض، مستنداً إلى يديه الصغيرتين، يستجدي المارة والعابرين بكل أساليب التسول التي مرنته عليها «وهيبة»، و «أم سلمة»، اللتان تكفلتا بتربيته.

تستمد الرواية عنوانها «ذاكرة شرير» من فعل التذكر الذي يتم الانتقال إليه مع استخدام صيغة المخاطب، في مقاطع سردية معينة، وإن كان الانتقال الى هذه الصيغة قليلاً على مدار صفحات الرواية (ص 180)، لكنه يحدث من دون قطع أو فاصل، بل من الممكن أن يتم في المقطع نفسه. وغالباً، في فعل التذكر والانتقال الى ضمير المخاطب، يتم استحضار مشاهد وأحداث حاسمة في مجرى الحدث؛ كأن يقول: «يا كسحي، تذكر ذلك الزمن». (ص 13)، «كم من الأعوام مضت، وأنت تتربع على مربعات مثلث الإسمنت». (ص 25)، «يا للألم وأنت تتذكر هذا يا كسحي» (ص 71).

يحمل فعل التذكر استعادة للماضي، بما يشكل من انعكاس على الحاضر المرعب المتشابك مع خوف باطني من نهاية مفاجئة أو غدر غير متوقع، وبين عالم الشارع بكل وحوله، وبين عوالم الجريمة، والسرقة، والشعوذة.

يستعيد كسحي عبر فعل التذكر، أيامه في بيت الشيخ الفاسق الذي يتزوج من «وهيبة». يأخذ الشيخ «وهيبة» إلى بيته الكبير، ويأخذ معها كسحي الذي يحوله إلى مساعد له في أعمال السحر؛ حيث يرتاد بيته تجار، وضباط، ورجال كبار في أجهزة الدولة، أطماعهم توازي قوتهم، وأيضاً نساء يبحثن عن الحظ واللذة والسطوة. هكذا يصير كسحي هنا كائناً أقرب إلى المسوخ، حين يدخل غرفة النساء المعتمة لعلاجهن على اعتبار أنه جني. وتبدو الصورة – على ما فيها من دراماتيكية رهيبة – محمّلة بواقع مأسوي وبائس، لأشخاص تبدأ حياتهم وتنتهي في غمضة عين، ولا يدري أحد بهم. «وهيبة» تعود إلى الشارع بعد القبض على الشيخ الفاسق، رحمة تموت بالإيدز، «سلوى» تصاب بالسل. وأشخاص يظهرون ويختفون، يبتلعهم ظلام الشارع؛ حيث يتشاجرون بعنف حقيقي، ثم يستسلمون لسطوة مادة «السيلسيون» المخدرة، يتكومون بعضهم فوق بعض وينامون.

د. لنا عبد الرحمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى