البحث عن آسيلي آردوغان
في الخامسة من عمرها رفع والدها السلاح في وجه والدتها مهددا إياها بالقتل، مما دفع بالطفلة الصغيرة آسيلي أن تقفز من مكانها لتضع يدها على فوهة البندقية، كي يُخفض الأب سلاحه، منذ تلك اللحظة الفارقة خُلق في داخلها الاحساس بضرورة التدخل لتعديل المصير، وبمرور الوقت، وسنوات النضج لم تجد الكاتبة التركية آسيلي أردوغان سوى هذه اليد لتكون عونا لها.
* * *
شوارع مدينة أسطنبول في شهر أكتوبر منشغلة بمطر غزير، وغير متوقع بالنسبة لي ، عند محطة ” سلطان أحمد” ألمح أول مكتبة تبدأ منها رحلة البحث عن روايات آسيلي أردوغان، في الداخل أنظر للمطر السخي عبر الزجاج، وأطرح سؤالا عن كتب آسيلي أردوغان، تأتي الإجابة لتنفي وجود أي كتب لصاحبة رواية “المدينة ذات العباءة القرمزية”. كنت قرأت هذه الرواية منذ عدة أعوام بترجمة عربية مرتبكة لكن من خلال متابعة حوارات الكاتبة وتجربتها الحياتية مع الاغتراب والكتابة،سواء في تركيا أو فرنسا ظللتُ أحس برغبة قوية لإعادة اكتشافها بلغة أخرى ، أصر على مواصلة البحث، أصبح الأمر نوعا من الاصرار للعثور على مؤلفاتها.
في البداية كان الغرض ايجاد مؤلفات أردوغان بإحدى اللغتين الإنكليزية أو الفرنسية، لكن المفاجأة كانت في عدم معرفة اسم الكاتبة وعدم الاحتفاظ بكتبها حتى باللغة التركية.. أسأل عن أسماء الكُتاب الأتراك الموجودة مؤلفاتهم باللغة الإنكليزية، تأتي الإجابة مستنسخة في جميع المكتبات لتشير نحو اسمين فقط هما : أورهان باموق، وأليف شفق؛ ” لا أحد آخر؟” أسأل.. أتلقى إجابة لامبالية تؤكد أن لا أحد.
في معرض للأشياء التقليدية التركية وللمنسوجات والمنحوتات والتحف والأنتيكات في” ميدان تقسيم”، وأمام بائعة كتب مستعملة أعاود السؤال عن روايات أسيلي أردوغان، البائعة المثقفة تخبرني بوجود كتب آسيلي لكن بالتركية فقط، أشعر بنوع من التفاؤل في وجود من يعرف أسيلي في بلدها.
منذ ما يزيد عن عشرة أعوام ظهر اسم آسيلي أردوغان، ضمن مجموعة أسماء لكاتبات تركيات أثنى عليهن أورهان باموق في أحد حواراته، كان اسم أليف شفق من ضمن الأسماء أيضا.
تردد اسم آسيلي بعد روايتها ” المدينة ذات العباءة القرمزية ” التي كتبتها عن مدينة ريو دي جينيرو، وكان من المتوقع لها أن تشق طريقها نحو العالمية كما حصل مع مواطنتها شفق؛ لكن حنكة الاختيارات والظروف الحياتية المناسبة للشهرة وعوامل كثيرة أخرى لم تكن في جانب آسيلي، لذا ظل اسمها محصورا ضمن الأوساط الأدبية، في حين انتشر اسم أليف شفق ليعبر حدود الدوائر الثقافية نحو الجمهور العام، على الرغم من تعرض شفق لتجربة مشابهة نوعا ما، حين تمت محاكمتها على رواية ” لقيطة أسطنبول” لتناولها الإبادة الجماعية للأرمن عام 1915 لكن نجمة الحظ التي حالفت أليف ، لم تصل إلى طريق آسيلي.
في السادس عشر من شهر أغسطس عام 2016 قامت الشُرطة التركية بمداهمة صحيفة “أوزغور غوندم” وتوقيف آسيلي، وفي اليوم التالي تم احتجازها بشكل كامل كونها كاتبة معارضة وعضو في المجلس الاستشاري للصحيفة، وبعد ثلاثة أيام تم اعتقالها واحتجازها من أجل العرض على المَحكمة، ثم حُكِمت بالسجن وقضت فترة عقوبتها داخل عنبر صاخب جدًّا، حيث يكتظ داخله ثمانون امرأة في فضاء ضيق.
ربما السؤال الجائز هنا، ما الذي من الممكن لكاتبة أن تفعله لتهدد نظاما !كي يتم اعتقالها بهذه الطريقة؟ جاءت آسيلي من الاغتراب نفسه، لأنها لم تجد نفسها ضمن أي انتماء، لا لأبيها الشركسي، ولا لأمها اليهودية، ولا لوطنها تركيا الذي غادرته إلى فرنسا ومنها إلى فرانكفورت ،لكل هذه الأسباب من البديهي أن تجد نفسها في الكتابة، وأن تختار الإنحياز لكتابتها والتشبث برأي حر لا يوارب في انتقاد السلطة.
تُرجِمت أعمال آسيلي إلى الإنكليزية والفرنسية وحصلت على أكثر من جائزة منها جائزة سيمون دوبفوار عام 2018، لهذه الأسباب كلها كنت أتوقع أن تكون معروفة أكثر في بلدها، وربما ساورتني فكرة أن تتوفر كُتبها بسهولة كونها تعرضت لتجربة الاعتقال، لأن الجمهور العادي يحب أن يُقبل على القراءة للكاتبات بعد أن يدور لغط سياسي أو اجتماعي حولهن ، لكن ظني لم يكن صائبا أبدا،فقد غادرت أسطنبول من دون العثور على أي من مؤلفات آسيلي أردوغان.
د.لنا عبد الرحمن