“صندوق كرتونى يشبه الحياة” وكائنات هشّة للغاية

رغم أن شخصيات قصص الكاتبة لنا عبد الرحمن فى مجموعتها القصصية “صندوق كرتونى يشبه الحياة”، ( وكالة الصحافة العربية – ناشرون) تبدو عليها الشراسة والعنف وأحيانا قوة الحسم، إلا أننا بعد معايشة تلك الشخصيات وتأملها ورصد مايصدر عنها من كلمات وسلوكيات، ومراقبة حركة الارتباك المتكررة، نلاحظ أنها شخصيات مهزومة تماما، وغالبا ما تحاول أن تبحث عن أى انتصار ضغير حتى يبرر لها الحياة، والوقوف قليلا فى ظل التناحر البشرى المريب.

ومنذ القصة الأولى التى تحمل اسمها المجموعة كلها، يحكيها شخص ما لشخص آخر يدعى “خليل”، ويخاطبه باسمه طوال القصة، ويصرّ على تكرار النداء، ربما ليشعر بأن هناك جدوى من سرد تلك التفاصيل المزعجة، ويبدأ ب:”اسمع ياخليل..حكايتى مع سلمى بسيطة، فى غاية البساطة، لكننى لم أنسها بسهولة”، هكذا يؤكد الحكّاء للمحكى له، حتى يؤكد لنفسه ماذهب إليه، فيسرد عليه بأن انبثاق سلمى فى حياته، يشبه اصطدامه بصندوق كرتةنى فى الطريق العام، وفجأة تخرج من الصندوق الذى ينفتح فجأة مظلة تعزف ألحانا ثم تطير فى السماء، وينطلق قزم يرقص وهو يرتدى قبعة حمراء، ويظل الراوى يصف سلمى بالصندوق، ويبدو أنها استسلمت لطيبته بعد أن خلّصها من حفنة أشرار، وجلس معها فى مكان ما، وأعطاها بضعة نقود، فاعتقدت على الفور أنه يريد جسدها، وعبر ذهاب اضطرارى إلى منزلها دون سابق معرفة، يفقدها تماما، ويظل شغوفا بها، ولا يعرف كيف يتواصل معها، وبعيدا عن الحكاية الإطارية تلك، فالحكاء متردد طوال حواره مع سلمى، وسلمى ذاتها المتمرسة على سلوك يشبه سلوك العاهرة، لا تدرك ماذا يريد منها، وأمها المشوهة اجتماعيا، تعيش حالة ما من الضياع، وشقيقها الأسمر الضخم لا يهمه سوى أن يتقاضى بضعة نقود من أخته، كائنات مشوهة تماما، رغم مايبدو عليها من حياة، تلقى بها الكاتبة فى إيقاع سريع، دون أن يشعر القارئ بتلك الرتابة التى ترافق ذلك النوع من الكتابة.

الحرية والتنفس

كما أننا نلاحظ فى قصة “آنهيمالا”، تلك الخادمة التى جاءت من حقول الشاى التى كانت تعمل فيها بإحدى البلاد الآسيوية، وتتعّرف بطريقة تشبه “البانتوميم” على زميلة لها فى المنزل المقابل، بعد إشارات وتلويحات، ثم تقرر الفتاتان الخروج يوم الأحد إلى الكنيسة، ويصبح ذلك اليوم هو النافذة الأساسية لممارسة كل أشكال الحرية والتنفس، وعندما تقتنى “مايوه”، يدور حوار بينها وبين مخدومتها، ولا تعرف أن تشرح لها سؤالا بسيطا، فحواه: “ماذا تفعل بذلك المايوه”، ولكن مخدومتها تلاحظ أنها مريضة، بعد أن شاهدت بقعا من الدم على منديل بيض، فتقررالتخلص منها، ولا تجدى كل التوسلات أو أشكال التحايل لإبقائها، هكذا ندرك هشاشة تلك الكائنات، مهما بلغت الآمال من ضآلة.

أما قصة “مكعبات سكر”، تذهب سيدة لتعمل فى وظيفة  سكرتيرة لصاحب ومدير الشركة، ولكن الشخص الذى يستقبل المتقدمين، يحاول إفهامها بأنها لا تليق بالعمل المعلن عنه، حيث أنها تجاوزت العمر، ولكنها تصرّ على قبول أوراقها، لأنها أكثر المحتاجات لتلك الوظيفة، بغضّ النظر عن المواصفات البليدة التى يشترطها أصحاب الأعمال، ويدور حوار مكثف وعميق وشيّق بين الموظف والسيدة، حوار تتخفف فيه السيدة من أى حرج تفرضه تلك الشروط التى تناسبها، ولكن الحوار يكشف أيضا عن القدر البائس الذى تعيش فيه تلك السيدة، ويجعلها وكأنها تتسول العمل.

نيجاتيف مشوش

ومن أمتع القصص التى تصادفنا ، قصة “نيجاتيف مشوش لأيام الأسبوع”، وتطلق فيه الكاتبة خيالاتها المرحة فى وصف أيام الأسبوع، الأحد الذى يشبه شابا بهى الطلعة يبتسم دائما، ةالاثنين المتزن والبطئ والحالم، والذى يقترن دوما فى ذاكرتها بأيام الامتحانات، أما الثلاثاء فهو شبه مستقل عن يوم الإثنين الذى يسبقه، ومنفصل عن يوم الأربعاء الذى يتلوه، لذلك فهى تراوغه دائما، ثم الأربعاء الذى يكرهه الجميع، فهى تحبه، ولا ترى على وجهه_مثلما يرى الآخرون_ تلك البثور والدمامل والتشوهات، وعندما تصل إلى يوم الخميس فتكتب عنه بوقار، لأنه حكيم متريث ، وشيخ جليل بلحية بيضاء، ولكن الجمعة ، يشغل موقعا مهما لأنه يتوسط حكمة الخميس، وصخب السبت، وذلك يجعله حائرا ، وكل الأعمال تحسم فيه، بينما السبت يوم تلفزيونى بامتياز.

هذه القصة تثبت جدارة تجريبية عالية، وتدفعنا نحن القراء أن نجارى الكاتبة فى تخيل تلك الأيام، ومحاولة شخصنتها، والتعامل معها وكأنها كائنات حية تتنفس وترقص وتحب وتكره، الأيام هنا مساحات قابلة لكل أشكال الوصف، حتى لو كانت كائنات ليست اجتماعية، والكاتبة تفتح قوسا واسعا فى التجريب والمغامرة، وربما تخرجنا تلك القصة من الأحداث والشخصيات المأزومة التى تصادفنا فى كل القصص.

ولا مجال – بالطبع- لاستقصاء كل القصص، بقدر ما نطرح بضعة ملاحظات على قصص لا تتكررفيها التيمات، بل تتعدد، ففى قصة “محطة نيويورك..بئر استكوهلم”، ندرك أن شخصا ما يذهب إلى نيويورك، كان متعلقا بفتاة ما ، تلك الفتاة التى تسميها الكاتبة “سحر” ليست زوجة أو عشيقة، ولكن الارتباط بينهما كان عميقا، ولا بد أن أن يبتعدا، لذلك ذهب هو إلى أميركا، وذهبت هى إلى “استكوهلم”، وراح يعيش كل منهما حياته الخاصة، ولكن كل منهما كان يستدعى الآخر بطريقة ما، ويحاور كل منهما الآخر، هو مفتون بالكتابة، وهى شغوفة باتنتظار ما، ويذهب كل منهما لتفسير ما يعيشه، وتأمل ما يحياه الآخر، علاقة غريبة ، ولكنها موجودة وفاعلة وقائمة، ربما تتدخل فيها عناصر اجتماعية كثيرة، تأملات فى بداية العلاقات التى غالبا ماتكون جميلة، أما النهايات فهى سيئة للغاية، فلم يفطن أحد لترتيب نهايات سعيدة، خاصة لو كانت العلاقات ضرورية أو شبه قوية.

تستخدم الكاتبة تقنيات متعددة، ونلاحظ أنها لا تنفلت من ذكر عناصر ثقافية، تلك العناصر المأخوذة عن السينما أو الأدب أو الكتب، ونقرأ أشعارا لبدر شاكر السياب من قصيدته “أنشودة المطر”، ونقرأ استشهادا بمحمود درويش، ونجد استنادا إلى رواية “عالم بلا خرائط” لعبد الرحمن منيف”، القصص تنطوى على تلك الإشارات الثقافية، دون أن نشعر بأنها مقحمة أو مدسوسة، ولكننا نقرأها بيسر وعذوبة وسهولة ، رغم وعورة الأحداث، وهشاشة وارتباك الشخصيات.

“صندوق كرتونى يشبه الحياة” مجموعة قصصية ممتعة، رغم مأساوية الكائنات المطروحة فيها، ربما لأنها كائنات تشبه عصرنا المشوه والمعتوه، والذى يباغتنا كل يوم بمآس وحكايات سوريالية، تلك الحكايات التى نجد نظائرها وأشبهها فى تلك القصص الجديرة بالقراءة، والتى تمنحنا تلك المتعة السحرية الخالصة.

شعبان يوسف

زر الذهاب إلى الأعلى