أين كانوا يكتبون ؟ بيوت الكُتاب الملهمة
في عام 1913، كتب أندريه لافون عن بيته الحلم قائلا :
” أحلم ببيت منخفض، نوافذه عالية
وثلاث درجات متآكلة ملساء وخضراء
بيت خفي فقير، كما في الصور الفوتوغرافية العتيقة
التي تعيش في داخلي فقط، حيث أعود إليه أحيانا
لأجلس وأنسى النهار الرمادي والمطر.
* * *
كتاب يروي حياة الكُتاب والأدباء في العالم، من داخل جدران بيوتهم لابد أن يكون كتابا حميميا، ثريا برؤية مغايرة تحتفي بالعالم الداخلي وتفاصيله، من ديكورات الجدران إلى طاولات الكتابة، وستائر غرف النوم، والمطبخ، والحديقة. إنها ليست أماكن عادية إذ في هوائها وعلى أرضها ولدت أعظم الأعمال الأدبية، لذا تحولت هذه الأماكن إلى أركان تحفظ ذاكرة الكُتاب الذين رحلوا، وتمنح عشاق نصوصهم مساحة لتأمل أشيائهم وتفاصيلهم الصغيرة، أحزانهم، مسراتهم، حكايات الغرام والوله عبر السنين الطويلة، أيضا ذكريات الفقد لمن غاب عن عالمهم وترك جرحا لا يُنسى كما في حكاية الكاتبة الدنماركية كارين بليكسون مؤلفة رواية “خارج أفريقيا” التي عاشت في بيت بُني في القرن السادس عشر، وشهد هذا البيت ولادتها وموتها وأفراح طفولتها، وحزنها على أبيها المنتحر. ورغم رحيلها إلى أفريقيا إلا أنها عادت إلى هذا البيت واختارت غرفة من أجل الكتابة والتأمل والعزلة، ووضعت في زاوية آمنة آلة موسيقية لتعزف عليها، وفي يوم من شهر أبريل 1962، انطفأت الكاتبة ودفنت تحت شجرة في الحديقة.
ليس الغرض من هذا المقال الحديث عن كتاب ” أين كانوا يكتبون”، إذ لا يمكن الإحاطة بكل بيوت كتابه في مقالة واحدة، إنما سأتناول ما استوقفني من حكايات لافتة في حيوات بعض الكتاب، علاقتهم مع بيوتهم، وأثرها في كتابتهم، عبر تضافر جغرافي تاريخي فكري، ترك انعكاسا واضحا في كتابتهم، فالبيت كما يراه باشلار ” يركز الوجود داخل حدود تمنحه الحماية”.
البيت وغرف الفنادق
كان جان كوكتو يفضل العيش في غرف الفنادق التي يعتبرها أشياء مجردة وغريبة، إلا أنه في عام 1947، وقع في غرام منزله من الوهلة الأولى لأنه محاط بالأشجار الباسقة والكثيفة وسواقي المياه، يقول في كتابه “صعوبة الوجود”: “مثل كل المتسكعين كان لديّ هوس الاستقرار، وأنا أحب أن أسكن في القرية.. إن ماء النهر والشمس يعكسان ضوءهما على جدران غرفتي ويرسمان لوحات من المرمر”. يوجد عند مدخل حديقة بيت كوكتو تمثال لأبي الهول، وفي الصالة توجد العديد من التحف واللوحات، كما نلاحظ حضور اللون الأحمر، وهذا مرجعه لأن كوكتو اعتاد منذ طفولته الذهاب إلى المسرح برفقة والديه، فوقع في غرام هذا اللون.
الكاتب الإيطالي غابريال دانونزيو وفي أثناء تحليق الطائرة فوق إحدى قرى ايطاليا أُعجب بقرية أذهله جمالها الخلاب، وقرر شراء بيت فيها، وهذا ما فعله حين توجه للقرية ودخل أحد البيوت صدفة هذا البيت أصبح بيته الأبدي، يعتبر البيت عاديا مربع الشكل، وملحق به حديقة كبيرة، لكن تنبعث من داخل ديكورات البيت دلالات فنية، وكان فيه بيانو ومكتبة مليئة بالكتب المثيرة والمهمة التي تركها السكان الأولون، واعتبر دانزونيو هذا فأل خير عليه.
كتبت فيرجينا وولف تصف بيتها قائلة: “لا يمكنني أن أتذكر تلك الانفعالات التي ولدها هذا البيت في نفسي طيلة حياتي”، تعود هذه العبارة إلى شهر يوليو عام 1919، حين اشترت البيت مع زوجها ليونارد وولف في مزاد، إنه منزل بسيط مشيد بالحجر والآجر وسط حديقة مهملة، ويطل على أفق من التلال والمنحدرات والغابات الهادئة، وسرعان ما أصبح هذا البيت بغرفه المتشابكة ملجأ ومرفأ للهدوء والطمأنينة في حياة الكاتبة. أثثت الكاتبة حديقة زجاجية، واعتادت أن تكتب في كوخ خشبي صغير متكئ على جدار الحديقة، وفي الصالة الخضراء اعتادت وولف أن تشرب الشاي بجوار المدفأة مع صديقات لها على وقع موسيقى فاغنر. ومن خلال إيرادات رواياتها استمرت فيرجينا بتأثيث غرف بيتها وتحسين أوضاع الحياة.
وفي سنة 1931 نشرت روايتها الأمواج وجهزت بيتها بالكهرباء. لكن الأغرب بالنسبة إلى فيرجينا وولف أنها عبرت عن موهبة أخرى لديها قائلة: “بعد وقت طويل أمضيته في القراءة والكتابة اكتشفت أن موهبتي الحقيقية تكمن في خياطة السجاجيد الصغيرة”. أما المعاناة الرهيبة في حياة وولف فكانت تلك الأصوات التي تسمعها منذ سنوات مراهقتها، حيث عانت نفسيا معاناة رهيبة، وهذا ما دفعها إلى أن تُثقل جيوبها بالحجارة وتنزل إلى ماء النهر لتموت غرقا، تاركة رسالة لزوجها تقول فيها: “بدأت أسمع تلك الأصوات لم يعد بإمكاني التركيز أو المقاومة، ما أريد أن أقوله لك إنني مدينة لك بكل السعادة التي حظيت بها طيلة حياتي”.
بين الغابة والبحر
لا يزال اسم المتنزه الصغير، منزل الكاتبة الفرنسية مارغريت يورسنار، منقوشا على حجر في زاوية من حديقته بعد رحيلها. لم يكن هذا المنزل يختلف كثيرا عن سائر المنازل المجاورة والمنتشرة في جزيرة تيفولي الأميركية إلا في كونه مكانا لذكريات كاتبة شهيرة وأول امرأة دخلت الأكاديمية الفرنسية، فقد أضفت على هذا المنزل الكثير من روحها رغم هيأته المتواضعة والبسيطة، إلا أن ما يميزه هو أنه يطل على الغابة من جهة، وعلى البحر من جهة أخرى. سكنت الكاتبة في هذا البيت مع صديقتها غريس، لكنها لم تتوقف عن السفر إلى أوروبا وقبرص وجنوب فرنسا، لم تكن تتوقف عن الكتابة سواء على الطاولة في منزلها أو في غرفة فندق أو في عربة قطار. فازت يورسنار بجوائز عديدة، وأصبح الناس من نيويورك وأوروبا يترددون على زيارتها في جزيرتها النائية.
أما مارك توين، الذي لقب بحكواتي المسيسيبي، فقد اعتاد أن يبحر على متن باخرة في المسيسيبي، ومن خلال رحلاته هذه استنبط اسمه الأدبي المعروف به “مارك توين” أي “العلامة المزدوجة”، وهي إشارة تعطيها له آلة الباخرة لتحري أعماق النهر عند اقتراب الباخرة من الساحل، بنى توين بيته في مدينة هارتفورد في ولاية كونتيكيت الأمريكية، ولأن زوجته كانت من أسرة ثرية، ولأنه أحبها كثيرا فقد حرص على تشييد بيت يليق بها، حتى أطلقت عليه الصحافة المحلية حينها صفة “البيت الأكثر غرابة في المنطقة”. كان البيت عبارة عن قصر ريفي مصنوع من حجر الآجر الأحمر، ومرصع بأشكال هندسية، ودعم معمار البيت بأبراج كبيرة، وشرفات منفتحة، وأخرى مغلقة، كان تصميمه خليطا من هندسة العصور الوسطى والكنائس القوطية.
كان توين يستقبل ضيوفه في هذا البيت الفخم، ويقدم لهم إلى جانب وجبات العشاء الشهية، حكايات طريفة ومغامرات غريبة حدثت له أو سمع عنها، وعادة كان يستمر السهر لساعات عديدة بعد العشاء أمام المدفأة التي وضعت بجانبها مدفأة ضخمة.
لكن سعادة توين بهذا البيت لم تكتمل، ففي عام 1891، وقع مارك توين بضائقة مالية كبيرة، اضطر على إثرها أن يترك قصره الصغير ويرحل إلى أوروبا ويسكن منزلا متواضعا، لكن شبح قصره ظل يحوم في رأسه حتى آخر لحظة في حياته.
يضم الكتاب أيضا حكايات البيوت لكل من: كارلو دوي، لورنس دوريل، وليم فوكنر، جان جيونو، كينت هامسون، إرنست همنغواي، هيرمان هسه، سلمى لاجيرلوف، غوسيب توماسي، بيير لوتي، ألبيرتو مورافيا، فيتا ساكفيل ويست، وليم بتلر ييتس وديلان توماس.
يمكن القول إن كل حكاية في صفحات “أين كانوا يكتبون” تقدم عالما شاسعا من الثراء الفكري في العلاقة مع المكان والزمان، في طريقة عيش هؤلاء الكتاب والكاتبات، ومواجهتهم ظروف الحياة الصعبة، خاصة أن البعض منهم عايش سنوات الحرب العالمية الأولى أو الثانية، واضطر إلى الانتقال من بلد إلى آخر، فيما عانى قسم منهم من الفقد خسارة الأهل أو الشريك، أو المعاناة من المرض أو الإدمان. لكن في كل الحالات ثمة علاقة حميمة مع البيت بوصفه المكان الذي يشهد على كل الأفراح والأتراح في حيواتنا جميعا.
الجدير بالذكر أن الكتاب صادر عن دار كلمة، من تأليف فرانسيسكا بريمولي- دروليرز، ترجمة رجاء ملاح، وقد ضعت توطئة للكتاب الكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس، وكتب المقدمة الكاتب والمترجم شاكر نوري.
د.لنا عبد الرحمن