رجل محظوظ

” ليكن المنفى مصير من يعصي الرب” .. تلاحق هذه اللعنة بيير، بطل فيلم “رجل محظوظ”.. هذه الجملة التي يقولها والده، ويرد عليها بيير بلامبالاة، مصدقا بكلمة ” آمين”، متجاهلا أن ثمة لحظات كونية عادلة ليس فيها تساهل مع قانون الكارما، يظل حضورها يتكرر في أكثر من مشهد على مدار الفيلم، حيث الجدل بين العصيان والتمرد  على القيود محور أساسي في تشكيل ذات البطل في هذا العمل. وتظل عبارة الأب الغاضب تشكل مفتاحا للأحداث اللاحقة ، حيث يبدو العنوان الساخر للفيلم نقيض ما سيمضي إليه مصير البطل في الجزء الثاني من العمل.ينطرد بيير من حياة الأبوين، يمضي إلى جحيمه الخاص، باحثا عن جنته، لكن هل سيجدها حقا؟

تدور الأحداث في القرن التاسع عشر، ويقدم الفيلم قصة ” بيير” وهو ابن قس فقير يعيش في ريف الدانيمارك، ويرفض الامتثال للحياة الدينية التي اختارها والده للأسرة. لكن التطرف يبدو في ايجاد طريق معاكس للذات وللحلم أيضا، حيث النزق، الغرور، الأنا المتضخمة، الرفض المطلق، وعدم الاصغاء، كلها أفعال يختارها بيير بارادته وتؤدي به للارتداد إلى الخلف.

يدرس بيير الهندسة، ولديه حلم كبير في استخدام طاقة الطبيعة لتوليد الكهرباء، وتشكيل قنوات واقامة تواصل بين البلدات الصغيرة والمدن، يحلم المعماري الشاب بمشروعة ويستميت في ايجاد سبل لتنفيذه لأنه يحتاج لتمويل ضخم. لذا يتعرف بطريقة متعمدة على ” ايفان” وهو شاب ثري من أسرة يهودية. يقدمه ايفان للمجتمع المخملي الذي يبدأ في تقديم مساعداتهم له ايمانا منهم بحماسه وموهبته. بيير يتودد لشقيقة ايفان الصغرى في البداية، وحين يدرك أن أختها الكبرى ياكوب سوف ترث مبلغا أكبر من أرث الأسرة ينقل اهتمامه لها، ويظل يطاردها حتى اعلان خطوبتهما.

تحصل لحظة التحول لاحقا في حياة بيير، حين يجد نفسه عاجزا عن الاستمرار في الكذب، لا يوجد حدث مفصلي يجعله يقرر التراجع عن الاستمرار في الالتصاق في مجتمع باذخ هو لا ينتمي إليه، سوى ذاته المتشظية، وآلام طفولته، عذابات سجنه داخل الأنا التي لم يستطع التحرر منها، أيضا موت والدته.

ياكوب تقول في أحد المشاهد: ” أعرف كم تؤثر الطفولة التعسة على تشويه الذات”، هذه الجملة تقدم ايجازا لطبيعة علاقتها مع بيير، وللأثر الذي تركه في حياتها.

لا يتعاطف المشاهد مع بيير حتى الثلث الأخير من العمل، وحتى المشاهد الأخيرة التي مضت بالأحداث نحو تحولات غير متوقعة في التصاعد الدرامي لشخصيته، أيضا في شخصية ياكوب التي تمضي في رحلتها الداخلية الخاصة لاكتشاف العالم من زاوية أخرى، غير حفلات الشاي الباذخة. كل ما تسبب لها بيير من ألم يكون الدافع لأن تمضي في اتجاه معاكس لما ألفته.

السؤال المحير بعد انتهاء العمل إن كان بيير فعل ما فعله، من رفض حضور جنازة والده، خداع خطيبته وأسرته، التعامل بنزق ولامبالاة مع كل من يحاول مساعدته، هل قام بذلك انسجاما مع ذاته أم عقابا لها؟

الفيلم  يناقش بعمق فكرة الطموح، والأنا في تسلطها وصراعها الداخلي المدمر أحيانا، أيضا وبشكل جلي يطرح الفيلم سؤالا مهما عن الوعي واليقظة الروحية –التي لا ترتبط بالتدين- بل بالميثاق الإنساني الذي تمثل الرحمة أعلى قمته. بيير هنا يتخلى عن الرحمة تماما، أو كما يصفه أخيه ” لقد  تحجر قلبه”، رغم موهبته، وذكائه، ووجود من يحتضنه ويحبه، إلا أنه ببساطة عاجز عن التسامح، عاجز عن المحبة، عاجز عن أخذها وتقديمها، وهنا محور العذاب المستمر في حياته، فهو في أحد الحوارات مع زوجته يقول لها بوضوح : ” يبدو أن الوحدة والعذاب هما  الملاذ لبعض الشخصيات، فلا تستطيع الخروج منه.” لعل هذا الإدراك الذي يصل إليه بيير متأخرا يجعله يدرك أنه لن يكون سعيدا في أي مكان ومع أي شخص.

وفي العودة إلى لعنة الأب الأولى، يبدو بيير محكوما بالنفي، حتى بعد رجوعه إلى بلدته ومغادرته كوبنهاغن العاصمة والزواج من ابنة رجل دين والاستقرار في القرية وانجاب ثلاثة أبناء ، إلا أن منفاه الحقيقي يظل موجودا معه أينما كان، منفى أبدي لن يغادره مادام حيا، إنه الشعور بالتعاسة وعدم الانتماء للدين والأسرة للحب للمكان، لعل اللحظات المشرقة الوحيدة التي بدا فيها بيير يتوهج بالسعادة لحظة حديثه عن مشروعه الهندسي الخاص، والذي فشل أيضا في تنفيذه.

ربما يبدو العيب الوحيد في هذا العمل هو وجود قدر من البطء في المشاهد، وعدم حدوث  تطور سريع في الأحداث مما سبب الملل قليلا خاصة أن الفيلم تجاوز الساعتين، كما بدا الثلث الأخير من العمل أكثر تماسكا وتصاعدا على مستوى الحبكة والنمو الدرامي للشخصيات.

الجدير بالذكر أن هذا الفيلم الدانماركي قد قام باخراجه ، بيل أوغست، ومأخوذ عن رواية  للكاتب هيريل بونتوبيدان كتبها ما  بين عامي 1898 و1904، وشارك بالتمثيل كلا من إسبن سمِد (بيير)، كاترين غريس ( ياكوب) تامي أوست، جولي كرستنسن التي تؤدي دور ناني، و بنجامين كيتر الذي قام بدور ايفان.

لنا عبد الرحمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى