“احكيلي” فيلم ماريان خوري عن الأمومة وما يمكن أن تفعله

 

من خلال الفيلم الوثائقي ” احكيلي” ، تقدم المخرجة ماريان خوري رؤيتها حول الأمومة والذات، إنه فيلم عن الأسئلة العميقة، الداخلية البعيدة التي نحملها في داخلنا لعقود، ونظل ندور وندور باحثين لها عن أجوبة شافية، تضيئ على تساؤلات مضمرة عن الأم، محورها  : ” لماذا، أو كيف كانت تراني؟ ما هي طبيعة علاقتها بي؟”. الفيلم الذي تم عرضه في المركز الثقافي الفرنسي، قبل عيد الأم بأيام قليلة، في تزامن ربما يكون مقصودا. ينتمي إلى أفلام السيرة الذاتية وهو الرابع في مسيرة خوري السينمائية، وقد ظلت أفكاره مستحوذة عليها منذ عام 2004، حتى خروجه إلى النور.

يتحرك الفيلم  زمنيا في خط متأرجح نحو الماضي، الحاضر، و المستقبل أيضا مع (الحفيدة). إنها أصوات أربعة أجيال من نساء العائلة، في جلسات ومشاهد حميمة وتلقائية، أيضا ارتجالية إلى حد كبير بين ماريان المخرجة، وابنتها سارة التي تدرس السينما أيضا، ثم هناك شخصية جدة ماريان ماريكا،ثم  والدتها ايرس، التي شكلت العلاقة معها سببا لاصرار ماريان على تنفيذ هذا الفيلم،كي  تفتح الجرح ثم تقوم بتطهيره، واغلاقه للأبد دون نكران ما تركه من ندبة في الروح. هناك إذن أجيال متعاقبة من النساء، ولكل منهم رؤيتها الخاصة للحياة وللأمومة وللمتغيرات العصرية التي حصلت في الواقع والسينما.

تلجأ ماريان إلى الفن كعلاج ذاتي من جهة،  ولفهم شخصية أمها من جهة أخرى، تلك الأم التي تدرك أنها رغبت في الحصول على ولد بدلا منها، معرفتها هذه الحقيقة تكشفت لها خلال تسجيل الفيلم، لكن ليس هذا السبب فقط الذي جعل علاقتها معها مضطربة، بل ثمة أسباب أخرى يكشفها العمل ليس من السهل البوح بها. لقد فقدت خوري والدتها عام 1989، حين كانت حاملا بابنها الأول، مثلت هذه اللحظة الفارقة بالنسبة لها محورا للتحول في رؤيتها للحياة، مع تجاور الفقد والولادة. إن خصوصية هذا العمل تكمن في إعادة طرح فكرة الأمومة من زاوية رؤية المخرجة، والاعتراف بما يمكن أن تسببه من أذى يترك احساسا دائما بالشجن الدائم الذي لا يمكن نكرانه، ثم القيام بمحاولة لفهم أسباب خلل العلاقة مع الأم، والغوص عميقا في دوافعها التي أنتجت حزنا جارفا لدى الإبنة (ماريان)، التي لا تُخفي أبدا ما تعرضت له علاقتها مع أمها من شد وجذب، كما لا تخفي ما عانته الأم من اكتئاب انعكس واقعيا على علاقتها بابنتها وبمن حولها.

تتشابه الأسئلة التي تطرحها خوري، مع الكثير من الأسئلة التي تطرحها نساء أخريات حول العلاقة مع الأم، وما إذ كانت الابنة هي نسخة أخرى من الأم حقا، أو أنها نسخة متمردة عنها، تسعى فعليا لأن لا تشبهها، أن تكسر الطوق وتمضي بعيدا، أن تبني ذاتها كما تريد، لا كما أرادت الأم. هذه الكينونة تتجلى في الفيلم من خلال تساؤلات ماريان عن هذه العلاقة البيولوجية الأولى، التي يحتاج أي انسان في العالم إلى مواجهتها، وتصفية ما فيها من شوائب إن وجدت. هذا ما يدفعنا لملاحظة وجود قدر كبير من الدفء والحميمية في لقطات الفيلم، وفي اختيار زوايا التصوير التي تساهم بشكل ملموس في تقديم الفكرة، مثل صور بالأبيض والأسود، ولقطات من مشاهد لأفلام قديمة.

يتوقف المشاهد أيضا عند العلاقة بين ماريان وابنتها سارة، يمكن تلمس كيف أرادت ماريان تجنب ذاك الشرخ مع ابنتها، لكن الابنة تبدو أكثر جرأة واستقلالية في المواجهة والتعبير عن ذاتها دون مواربة وبسخرية في بعض اللقطات، لقد احتاجت ماريان سنوات طويلة حتى تتمكن من تنفيذ فيلمها، بغرض فهم الماضي، بينما لا تبدو سارة منغمسة في هموم وجودية ذاتية، أسئلتها مطروحة نحو الخارج أكثر مما هي نحو الداخل، هي تمثل جزءا من كينونة ماريان، لكنها لا تلتحم في  الدراما النفسية التي عانت منها لأعوام طويلة.

جاءت خوري من عائلة سينمائية، فهي ابنة أخت المخرج يوسف شاهين، لذا  يحضر في الفيلم عبر لقاءات سجلتها معه ماريان منذ سنوات، واحتفظت بها حتى اللحظة المناسبة.كما استعانت بمشاهد من أفلامه مثل ” اسكندرية ليه”، ومن الملاحظ تأثرها بشاهين ليس في التقنيات بقدر اهتمامها بفكرة التوثيق، وهذا ما عمل عليه شاهين في افلامه التي تنتمي إلى حقل السيرة الذاتية.

لنا عبد الرحمن

زر الذهاب إلى الأعلى