أوبينهايمر “أبو القنبلة الذرية” أطلق رغبته للإبادة في وجه البشرية
في فيلمه الجديد “أوبينهايمر” اختار المخرج البريطاني- الأمريكي، أن يتناول سيرة حياة العالم الفيزيائي روبرت أوبنهايمر، مخترع القنبلة الذرية، الذي يؤدي دوره ببراعة كيليان مرفي، رغم أن الفيلم يتسع عن نطاق السيرة الذاتية بمفهومها الشائع، إلى اعتبار الفيلم سيرة زمانية مكانية، لمرحلة حرجة من تاريخ الإنسانية : بداية مما قبل الحرب العالمية الثانية، ثم الحرب وتصاعداتها، نهايتها، ثم الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا. اعتمد نولان في سرده لهذه الوقائع طوال ثلاث ساعات على التقطيع الزمني، وتقنية الفلاش باك، حيث تقاطعات العلم والحرب والسياسة.
الفيلم إذا كان حمل اسم “أوبينهايمر”؛ إلا أنه يُمكن اعتباره من ناحية أخرى شهادة دموية عن “اللإنسانية”، وصناعة الموت الجماعي، فقد ذهب مئات الآلاف ضحية القنبلة الذرية التي صنعها ” أوبينهايمر” وألقتها الولايات المتحدة الأمريكية على مدينتي ” هيروشيما”، و “ناكازاكي”، في اليابان، في نهاية الحرب العالمية الثانية،أغسطس 1945.
يرجع الفيلم زمنيا، إلى ما قبل الحرب، ورغبة “أوبينهايمر”، في اختراع ما يُخلد اسمه العلمي، بما لم يسبقه إليه أحد. ومن أجل تحقيق هذه الرغبة، التي بدت متماهية مع رغبة أمريكا في صناعة قنبلة نووية تمكنها من التحكم بالعالم، يتم تسخير كل الإمكانيات لأوبينهايمر، كي يتفرغ لإنجاز مشروعه. يختار هو بنفسه مساحة شاسعة في ولاية نيو مكسيكو، لتتم على أراضيها التجارب النووية، ومن أجل هذا يتم بناء ما يشبه المدينة، حيث يعيش أوبينهايمر وكل من يعمل معه في المشروع، في مساحة شبه معزولة عن العالم.ومع نجاح اختراعه، وتجربته النووية المصغرة في تلك الأرض، يصبح اسم ” أوبينهايمر” أبو القنبلة الذرية”، ويطلق مقولته الشهيرة : ” الآن، أصبحت الموت، مدمر العوالم”.
عبثية الموت
ثمة مشاهد في الفيلم، بالغة الرعب من جانب عبثية الإنسان ودمويته، مثل مشهد اجتماع الرئيس الأمريكي ترومان مع قادته كي يختاروا المدينة اليابانية التي سيتم إلقاء القنبلة عليها، يقول الرئيس: لنستبعد مدينة ” طوكيو” لأنها العاصمة، ونستبعد مدينة ” كويوتو” لأني أمضيت فيها شهر العسل، لنبحث عن مدن أخرى”.
مشهد آخر، حين يذهب أوبينهايمر للقاء الرئيس الأمريكي بعد تفجير المدينتين، وجهره بمعارضة الحكومة الأمريكية استمرار إنتاجها للأسلحة النووية. يقول: ” أحس أن يدي ملطختان بالدماء”، فيرد عليه الرئيس بسخرية بأن يناوله منديلا ورقيا ويطلب منه أن يمسح يديه، قائلا : ” أنا من ألقيت القنبلة، هل تظن أنهم سيتحدثون عنك أنت”. لعل القضية الجوهرية هنا، أن هناك شخصين، أحدهما اخترع القنبلة، ويبدو أنه يشعر بالندم، فيما الآخر ألقى القنبلة ويغمره احساس النصر. ربما أراد الفيلم الايحاء لنا بندم العالم على ما صنعت يداه، لكن في جوهر الأمر بدا أن العالم والرئيس متساويان تماما.
شدد الفيلم في الجزء الثاني منه، على اظهار أوبنهايمر نادما على ما فعله، خاصة بعد أن يتم اتهامه بالخيانة، وبأنه متعاون مع الاتحاد السوفياتي. ثمة قضية فلسفية وأخلاقية لا يُمكن اغفالها في العمل، أوبينهايمر من جهة اخترع القنبلة الذرية التي جلبت النصر لبلاده عبر تدمير مدينتين، وقتل مئات الآلاف من البشر، ومن جهة أخرى لم يمر وقت طويل حتى تم وضعه في خانة الاتهام. وكأن بداية تدميره الذاتي، جاء أيضا مع إلقاء القنبلة وتفجيرها.
لم ينجح الفيلم ، في خلق أي حالة من التعاطف مع أوبينهايمر، على مدار ثلاث ساعات استطاع كيليان ميرفي، تجسيد جشع المجد على حساب أي شيء آخر، والبرود الإنساني المرعب الذي يتسم به، ليس هناك مشهد حميم يجمعه مع عائلته، أو يحتضن أطفاله، المشهد الوحيد الذي حمل فيه طفله الأول بيتر، حين أخذه ليضعه في رعاية أحد أصدقائه معترفا بأن لديه من الأنانية والجشع ما يعيقه عن رعاية طفل. براعة ميرفي في الإداء ظهرت أيضا في ملامح الوجه،حركة العينين وجمودهما فتبدوان أحيانا مثل الزجاج،
ثم الأداء الجسدي المدروس لجسد ميرفي النحيف الذي بدا أشبه بروبوت ، ليس هناك مجال لأي سلوك إنساني عفوي، سوا لقطات عابرة في الثلث الأول من الفيلم، مشاهد المحاضرات الجامعية، وحمل أوبينهاوير للكتب الثقيلة، حواراته العاطفية، كلها لقطات متوجسة تسبق الفعل الأكبر.
المشاهد التي جمعت بين أينشتاين وأوبينهايمر، بدت مهمة، من جانب تبرأة أينشتاين من المشاركة أو الموافقة على مشروع أوبينهايمر منذ أن كان مجرد فكرة، حين يقصده أوبينهايمر ويعرض عليه المعادلة الفيزيائية لتركيب النيتروجين وتطويرها لتكوين القنبلة الذرية، ينظر أينشتاين باستخفاف للورقة، ويقول أنه لا يعرف شيئا عن هذا الأمر. ثم المشهد الأخير في الحوار بينهما، حين يقول أوبينهايمر لاينشتاين : ” أخشى أن يكون لدينا ما سوف يدمر هذا الكوكب”. وفي الحقيقة، بدت هذه الجملة رسالة الفيلم الضمنية، المصاغة بشكل جيد، أميركا لديها ما يدمر هذا الكوكب.
طوال مشاهدة الفيلم، بقي ظل فيلم آخر بعنوان “هيروشيما حبيبتي”، حاضرا بقوة، لأنه يصور أبشع مأساة إنسانية تسببت بها الحرب. الجدير معرفته أيضا أن إلقاء القنبلة النووية سبب الموت والدمار في اليابان، كما سبب لأجيالٍ من السكان المحليين في نيو مكسيكو المعاناة من السرطانات النادرة بعد سقوط حطام الانفجار على المنازل والماشية. لذا لا يحظى أوبينهايمر بأي احترام، من قبل السكان الأصليين الذين عاشت عائلاتهم بالقرب من موقع اختبار القنبلة.
هناك أيضا العديد من المشاهد اللماحة عن حقيقة ما كان يحدث، مثل انسحاب أحد العلماء من المشروع، وقوله لأوبينهايمر: ” أنت تركت العلم منذ سنوات وأصبحت مهتما بالسياسة”، مشهد آخر خلال التحقيق مع أوبينهايمر عند اظهاره الندم على اختراع القنبلة، يقول له المحقق بسخرية : ” الآن تحكي عن الضمير وطوال سنوات اختراع القنبلة لم تفكر بالوازع الأخلاقي!”، لقطة أخرى يتم تمريرها سريعا خلال حوارات التحقيق في أن القنبلة أُلقيت على بلد ليس بامكانه الاستمرار في الحرب أصلا، وكان على وشك الاستسلام.
يمكن وصف عدسة نولان بأنها فائقة الدقة والحساسية، في موضوع يجذب اهتمامه الشخصي بالمقام الأول، معروف عنه اهتمامه بعلم الفيزياء والخيال العلمي، لكنه في الوقت عينه رفض الاستعانة بالتقنيات السينمائية الحديثة وتركيب صور عبر الجرافيك وبرنامج الذكاء الصناعي،ومن أجل تصوير مشهد الإنفجار، أنشأ موقع انفجار نووي يحاكي ذلك الذي جرى في نيو مكسيكو عام 1945
جسدت النجمة إيميلي بلانت دور زوجته كيتي أوبنهايمر، وقد ظهر خلل في رسم شخصيتها، من ناحية ظهورها كزوجة وأم لامبالية، تترك ابنها يبكي فيما هي ثملة تحمل زجاجة الشراب في يدها، فيضطر أوبينهاوير إلى أخذ الطفل إلى أسرة أحد أصدقائه ليعتنوا به، ثم في النصف الثاني من الفيلم، تنتقل معه إلى نيو مكسيكو، وتصبح ربة بيت وأم لثلاثة أبناء متماهية مع دورها، كزوجة داعمة لزوجها في رحلته لصنع القنبلة الذرية. بدت كيتي مجرد ظل عاكس لأوبينهايمر، لم يقدم نولان أي عمق لشخصيتها، وهذا ينطبق أيضا على حبيبة أوبينهايمر الأولى التي ماتت منتحرة، أو مدفوعة للانتحار بسبب انتمائها للشيوعية. في احدى اللقطات قدم نولان مشهدا لأوبينهايمر يبكي ساقطا على الأرض في حضن زوجته بعد أن يعرف بانتحار حبيبته، أحس لوهلة كما أنه من تسبب بموتها، سرعان ما يتلاشى هذا الإحساس بسرعة، ويعود للإنغماس في هدفه الأعلى : ” صناعة القنبلة الذرية”. في حقيقة الأمر، تبدو كل التفاصيل الأخرى في حياة هذا العالم مجرد ظلال تحوم حوله، بحيث انحصر وجوده وحياته ككل في الغاية التي يبدو أنه جاء إلى هذا العالم من أجلها، أن يكون: ” أبو القنبلة الذرية”
الجدير بالذكر أن الفيلم مأخوذ عن رواية بعنوان “بروميثيوس الأمريكي”، وبروميثيوس هو إله النار عند الإغريق. كتب الرواية الكاتبان كاي بيرد ومارتن ج. شيروين، واستغرقت كتابتها منهما خمس وعشرين عامًا، ونالا عنها العديد من الجوائز، بما في ذلك جائزة بوليتزر عن فئة السيرة الذاتية لعام 2006
د.لنا عبد الرحمن
جريدة ( صوت البلد )