مسلسل “سابع جار” الثابت والمتحول في دراما المجتمع
يستطيع المتابع لمسلسل “سابع جار”، الوقوف على الطروحات الاجتماعية والفكرية والأسلوبية الجديدة، التي يقدمها هذا العمل الدرامي، عبر شريحة اجتماعية من العائلات المنتمية إلى ما يمكن اعتباره طبقة وسطى،وبما أنه لا يمكن لنا أن تغفل الدور – أو نعده ثانويا- الذي تساهم به الدراما في تخليق العلاقات الإجتماعية، انطلاقا من مفهوم ” المحاكاة”، محاكاة الفن للواقع، حيث يقوم الفن بالاختيار من مادة الحياة، غربلتها لمعرفة ما يختار منها، لتصبح واضحة وصادمة تفرض على المتلقي إدراكها.
تمكن المسلسل من تحقيق نسبة مشاهدة عالية، كما تمكن من الحصول على قدر كاف من الغضب الذي سمح بسريان شائعات عن توقف عرضه بسبب الطروحات الأخلاقية التي يتناولها، مع تجاور اتهامات غير قليلة تشكك في بعض النماذج المقدمة، على أنها لا يمكن أن تكون نتاج المجتمع المصري المحافظ ، يتجاهل أصحاب هذه الأفكار حقائق كثيرة أبسطها أن هذا المجتمع المكون من تسعين مليونا يسمح بوجود كل النماذج البشرية ضمنه، لذا يمكن اعتبار أنه في مثل هذا النوع من الأعمال الدرامية، ذات الخطاب الايديولوجي الخارج عن الأعراف التقليدية والثوابت الراسخة، تُعتبر ردات الفعل الشاجبة والمستنكرة وسيلة هامة لإدراك خوف المتلقي من صدمة التفرج على أشياء يحاول إقناع نفسه دائما أنها غير موجودة، وأنها لن تحدث ضمن حدود عائلته الصغيرة، أو ضمن من يهمه أمرهن من النساء تحديدا، بنات أو أخوات أو زوجات.
تواجه (هالة) رحمة حسن ، في “سابع جار”، أزمتها الشخصية في أنها وصلت لسن الخامسة والثلاثين وتخاف أن يمر بها العمر ولا تتمكن من الإنجاب، لكن هالة في المقابل لا تريد الزواج، بل تريد طفل يؤنس وحدتها كما تقول لأمها ليلى (شيرين )، ويسبق هذا القول تجرؤ هالة على عرض فكرتها على زميلها في العمل علي (محمد علاء) ، بعد أن طلب منها بكل بساطة علاقة مفتوحة تشمل الحب والجنس لكن بلا أي التزامات ، التوقف قليلا للتأمل بالرغبتين المتعارضتين ظاهرا المتفقتين ضمنا، لكل من ليلى وعلي يضع فعل الأمومة على المحك في استنكار الطرح من الأساس الذي قدمته هالة لعلي، في مقابل تمرير ما قاله علي بعادية شديدة :” علاقة مفتوحة” خالية من أي التزام.”
يمكن القول أن المسلسل يقدم من خلال شخصية علي، نموذجا يختصر جزءا من تاريخ الرجل العربي التقليدي الذي انحصرت صراعاته في التنافس المهني، وفي معارك اجتماعية صغرى للتأكيد على نفوذه الممنوح من الدين والمجتمع والقانون. لم يعش هذا الرجل معاناة داخلية مع قمع جسده واعتباره عورة، مع احساسه بالعنوسة وأنه عاجز عن تحقيق كيانه كأب، لأن الرجل هو القادر على اختيار عروسة بغض النظر عن سنه، كما أنه لم يعان بشكل ظاهر مع فرض قرارات تتدخل مباشرة في مصيره ( اختيار الدراسة أو الشريكة )، مع التنويه لوجود حالات لرجال يعانون من السلطة الذكورية المتمثلة بالأب. عاش الرجل في كنف إحساس بوجود من يتقبل أخطاءه ونزواته وهفواته وتبريرها لأنه رجل فقط، وكل ما حوله من قوانين وأعراف تدعم سلطاته الذكورية، يدرك الرجل هذا جيدا ويستفيد منه على أرض الواقع، بحيث يكون قادرا على النفاذ بسلام دون وقوع ضرر عليه لحظة الخطر.
سنجد هذا أيضا في المسلسل مع نموذج آخر هو أحمد ( أحمد الأزعر) حبيب المهندسة مي (هديل حسن)، الذي تمنحه علاقته بها الممتدة من سنوات المراهقة الاحساس بالمتعة من دون الأمان. نموذج آخر متحرر اجتماعيا وفكريا هي مي التي تبدو أزمتها في علاقتها مع حبيبها أنه لم يثق بها أبدا، واختار أن يتزوج بدلا منها فتاة تقليدية عادية جدا، لا تمنحه المتعة بل الثقة بأنها لن تخونه، ويختار هو بملئ إرادته بأن يكون زوجا خائنا بالعودة إلى العلاقة مع مي.لم تتوقف الأصوات المستنكرة للمسلسل أمام فعل الخيانة الذي يقوم به أحمد لزوجته، هذا الفعل تم قبوله بشكل عادي، في مقابل الاستنكار لحدوث الحمل وإدانة مي بالكامل، علما أن مي هنا حرة، ولا تقوم بفعل الخيانة نحو أحد، هي تمارس حريتها في اختيار واع لمن تمنح جسدها له.
ساهمت الخطابات النسوية والجندرية في حدوث طفرة وعي للمرأة، في المقابل لم تظهر خطابات موجهة للرجل لتحكي له عن أهمية المساواة وعن نظرية ” الجندر”، لقد ظلت هذه الخطابات تحاكي المرأة وتعمل على توعيتها بحقوقها المادية والمعنوية والجسدية وبأنها ” ليست كمالة عدد. كانت المرأة في تعطش لمثل هذا النوع من الخطاب الذي تم استقباله بتطرف في بعض الحالات بغرض الإحساس بالحماية وعدم تكرار المظالم التي تعرضت لها على مدار قرون طويلة ، في الوقت الذي قبِل الرجل بالخطاب النسوي الجديد على مضض، وتنوعت ردات الفعل بين الاستنكار والتسخيف والتجاهل، والقبول عن اقتناع عند شريحة قليلة من الرجال.
كانت بذرة الوعي تنمو بسرعة داخل المرأة وتدفعها للتحرك،للإمساك بزمام حياتها، والخروج عن الدور المنوط بها، تشكلت تساؤلات داخل المرأة تهدد الثوابت الراسخة في المجتمع، وتهدد أهم أركانه ( العائلة)، هذا التهديد يبرز مع نموذج (هالة) وطموحها أن تنجب طفلا عبر تجميد بويضاتها من دون وجود زوج..هكذا يبزغ هاجس الأمومة ويفرض سؤاله الكبير حول استمرار النوع البشري لأعداد من النساء تريد الإنجاب ولا تجد زوجا مناسبا، وترفض منح حياتها كلها في علاقة عقيمة.
تمكنت المجتمعات الغربية عبر تدخل الدولة ورعايتها، وبرضى اجتماعي من حل هذه المشكلة عبر الإعتراف بكيان الأم العازبة التي تنجب من دون وجود زوج. من هنا يتماس المسلسل أيضا مع القوانين والتشريعات، ويقدم سؤاله عن الغد في المجتمعات المحافظة مع جملة تُلقيها الطبيبة التي تقصدها هالة للسؤال عن تجميد البويضات حين تقول : ” أنت مش أول واحدة تسألني في الموضوع ده.”
هذا لا يعني بالضرورة أن هناك كثيرات يفكرن في المرحلة الآنية بالطريقة التي تفكر بها هالة، لكنه يعني أن هذا التفكير بات مطروحا وستتوسع دائرته في سنوات ليست بعيدة؛ لأن استلهام الحياة الغربية، لا يحدث فقط على هذا المستوى فقط بل من جوانب حياتية أخرى في الحياة العربية يمكن النظر إليها من جانب تقليد الأقوى،أبرزها الإقبال على العلاقة مع اللغة الأجنبية وحضورها الواقعي والدرامي في حياة الناس اليومية ومحادثاتهم.
* * *
تبدو النماذج النسائية التي يقدمها المسلسل مألوفة وغير بعيدة عن نماذج واقعية ممكن معرفتها؛ وهذا يعود للتنميط الاجتماعي في السلوك السائد بين الفئات التي تعيش حياتها وهي تسير بين قضبان لا تحيد عنها. قدمت دلال عبد العزيز دورا مميزا بإداء ذكي وتلقائي لشخصية ( لميا)، وهي أم مصرية تقليدية يساور المشاهد الضحك لدهشته وهو يلحظ مدى تشابه تصرفها مع أم أخرى عرفها عن كثب، إلى جانب شخصية أختها ليلى، التي أدت دورها الفنانة شيرين، وهي نموذج آخر لأم خرجت إلى ساحة العمل، ووصلت لمنصب مدير عام في مهنتها لكنها لا تختلف كثيرا في مستوى الوعي عن أختها التي لم تخرج لساحة العمل، ويمكن إضافة نموذج نهى( هايدي كرم ) وهي أم شابة، تتشابه مع شريحة عريضة من الأمهات في أواسط الثلاثينات من أعمارهن، أسيرات الرغبة في تفوق أولادهن في كل مناحي الحياة، مقابل تفانيهن كأمهات سواء على حساب أنوثتهن أو علاقتهن بأزواجهن، لقد تماهين مع دور الأمومة بشكل كامل يصعب معه ايجاد دور آخر لهن في الحياة.
تفاصيل فنية
مع تشعب وتركيب القضايا الاجتماعية التي طرحها العمل، يمكن القول أن مخرجاته الثلاث آيتن أمين ونادين خان وهبة يسري،حاولن بشكل جيد التركيز على الجانب الفني للعمل من جانب الديكور والإضاءة والحوار الذي بدا منسجما مع الشخصيات في معظم الأحيان ، توجد تفاصيل يمكن ملاحظتها واعتبارها خاصة بالمسلسل، مثل حركة الكاميرا المتصلة في مشهد واحد، والنقلات السريعة التي تعتمد على ذكاء المشاهد في استنتاج الحدث، حضور الحوارات النصية عبر الهاتف كجزء من الأحداث، وليس كعنصر خبري لقول معلومة.
يمكن الوقوف أيضا على عدة ثغرات رغم أنها لم تقلل من متعة المشاهدة. الاعتماد على المشاهد الطويلة بدا مملا أحيانا، كما في مشهد العائلة حين تذهب للسينما، وما يتلوه من تجوال بالسيارة في الشارع، فالحلقة هذه لم تحمل جديدا على مستوى الحدث سوى قدوم العمة ( هناء الشوربجي) من الإسكندرية للإقامة عدة أيام في القاهرة في ضيافة لمياء، كما بدت بعض العلاقات وما يتعلق بها من تفاصيل تثقل العمل من الجانب الفني كما في علاقة عمرو (هاني عادل) وزوجته جيلان (دعاء حجازي)، فالإضاءة على الحالة الإكتئابية التي يعاني منها عمرو، بدت مكررة ولا تحمل جديدا مع كل مشهد، ينطبق هذا الكلام أيضا على علاقة طارق ( نيقولا معوض ) وزوجته نهى التي أصبح من الممكن تخيل الحوار الوارد حدوثه بينهما. أما شخصية أسامة عباس الذي يقوم بدور لواء متقاعد يعيش وحيدا مع ممرضته كريمة (صفاء جلال)، رغم إدائه المميز والخالي من الافتعال إلا أن ظهوره ظل محصورا في حيز ضيق ، فبدا الإداء الفني له أعلى من الأحداث التي تتعلق به.
نجح العمل في تقديم وجوه فنية جديدة تماما، وأخرى معروفة، هذا الدمج قدم للمشاهد معادلة فنية أتكل عليها المسلسل في تحقيق نجاحه الذي قام في جزء كبير منه على تعمد “الواقعية” كجزء من سمات العمل، مع أن هذه الواقعية بدت مبالغا بها مع شخصية هبة( سارة عبد الرحمن) مثلا التي تظهر في إداء متشابه، وهي تأكل أو تدخن، أو تتشاجر مع أمها، من دون تسليط الضوء على عالمها الداخلي بشكل كاف، مع أنها تعاني من مشكلة أساسية في حياتها هي عدم إدراكها لما تنوي فعله في الحياة.
مما لا شك فيه أن “سابع جار” قدم هزة قوية للثوابت الإجتماعية والدرامية، في دراما جديدة شكلا ومضمونا، وفتح باب المسكوت عنه في الحياة والفن، فالدراما أيضا بطبيعتها فنا يبدأ من العلاقة مع المجتمع وينتهي مجسدا على الشاشة، ومن الطبيعي أن يظل مفتوحا على التغيير طالما المجتمع متحول وغير ثابت وقابل للأخذ والطرح، هكذا تصنع الدراما مقاييسها ورؤيتها وتتفاعل مع التحولات الفنية والإجتماعية لتؤلف بين النص والصورة، وتصنع هيمنتها الخاصة.
د.لنا عبد الرحمن