فيـلا 69 .. ضباب في مواجهة الحب
في مواجهة الموت حين يقترب منا نقطِّر أحزان حياتنا الماضية، ونستجدي عطف الآخرين على فكرة الرحيل المرتقب. وفي هذه اللحظة الأخيرة يحول الحب بيننا وبين الانغلاق على ذواتنا، ويساعدنا على مواجهة الموت والانتصار للحياة؛ الحب بمفهومه الأشمل الذي نمنحه من دون انتظار، أو نأخذه هبة قدريّة مفاجئة.
لحظة يطرحها فيلم «فيلّا 69» للمخرجة آيتن أمين، بطولة خالد أبو النجا ولبلبة، والعديد من الوجوه الشابّة.
عبر شخصية «حسين» الكهل المريض، يقدم خالد أبو النجا دوراً مميزاً – يضعه في مأزق حول اختياراته الفنية اللاحقة. يعيش حسين وحيداً في فيلّا ورثها عن والده، يعمل مهندساً في إحدى الشركات، ويواجه صراعاً حاداً مع الموت يدفعه للاعتكاف في فيلّته. لا يزوره إلا المهندس الشاب (حيدر) الذي يعرض عليه الخرائط الهندسية للعملاء،وممرضة تعطيه الحقن، وهو يتعامل مع كليهما بمزيج من السخط والغضب والمزاج المتعكِّر.
يبدأ المشهد الأول في فيلم «فيلّا 69» مع صورة النيل، والفيلّا المطلّة على ضفافه، فيلّا عتيقة لم تتعرض للترميم، لأن صاحبها يستعذب العيش في زمن مضى، يرفض تحريك الستائر، ومسح الغبار، ويجد أن حياته في سيرها على هذا المنوال تنتصر للماضي الذي يمجِّده؛ يتواءم هذا التفكير مع تخيُّلاته التي تحضر طوال الفيلم عن ثلاثة أشخاص لا نعرف إن كانوا يوماً موجودين في حياته، أو أنهم مجرّد خيالات. ويبدو من هيآتهم بأنهم ينتمون إلى زمن السبعينيات في اللباس وتسريحة الشعر، يحضر الأصدقاء الثلاثة (فتاة وشابان) في مخيِّلة حسين، ونراه يجالسهم في غرفته يعزف معهم على العود، أو يلعب الورق، كما لا يكتشف المشاهد إن كان حضورهم يرتبط بهذيانات المرض، أو باضطراب نفسي موجود عند البطل، خاصةً وأنه شخصية مركَّبة عاشقة للفن، وفي الوقت عينه منعزلة وحادة الطباع، فالبطل يجامل في آرائه.
لكن حياة حسين تتعرَّض إلى تحوُّل تام: من فكرة انتظار الموت، إلى حالة من العبث بالحياة، مع قدوم أخته نادرة (لبلبة) برفقة حفيدها سيف لتعيش معه. توهمه أخته أنها جاءت إليه لأنها تقوم بإصلاحات في شقَّتها، ويتَّضح من علاقته بها أن ما يجمع بينهما أخوّة شكليّة، لأن حسين لم يغفر لأخته أنها باعت فيلّا العائلة في المعمورة، كما ينظر لها بازدراء لأنها تضع مصالحها المادية في المقام الأول، فهي لا تحبّ الشعر، وتوطِّد علاقتها بالجيران بدافع من وجود مصلحة مشتركة.
الحفيد الشاب سيف، الذي لم يتعدَّ الثامنة عشرة من عمره، يخلق في عالم حسين حالة من المواجهات التي تتعلَّق بالزمان وبالمكان، وبالأفكار أيضاً. يواجه حسين جيلاً آخر يتمثِّل بسيف وصديقته آية؛ جيل حديث، له موسيقاه الخاصة واهتماماته وعواطفه المتدفِّقة أيضاً. المشهد الأول الذي جمع بين حسين وآية هو أكثر المشاهد تلقائية وزخماً في التعبير عن بداية نشوء علاقة تعاطُف بين حسين الموشك على الرحيل، وبين كيانات أخرى صارت موجودة معه في البيت شاء أم أبى. ويكون الفن سبباً للتقارب بين الجيلين. سيف وآية وبعض الأصدقاء يشكِّلون فرقة موسيقية، ويحتاجون إلى مكان لإقامة البروفات، تتمكَّن آية من إقناع حسين بأن تكون البروفات في الفيلّا، هنا تحدث نقطة التعاطف القصوى حين يستمع حسين إلىكلام القصائد التي تغنّيها الفرقة، ويجد كلامها باهتاً وسطحياً، يتدخَّل لإعطاء توجيهاته للشباب، واقتراح كتب شعر ليقرؤوها، ويستوحوا منها كلماتهم؛ هذا التعاطف يحضر أيضاً في علاقة حسين مع سيف، وتفهُّمه لرعونات الشباب، وتقبُّله لها برحابة صدر من دون ملاحظات أو تنبيهات روتينية.
ثمة مواقف أخرى في حياة حسين تصل إلى ذروتها في محور التعاطف الإنساني مع نهاية الفيلم: الموقف الأول في قراره مساعدة الممرضة التي تأتي لزيارته،يقرر شراء الأرض التي يمتلكها خطيبها، كي تتمكَّن من إتمام الزواج. موقف آخر يرتبط بمهنته وعلاقته بالمهندس الشاب (حيدر) الذي يتنازل له عن نصيبه في الشركة الهندسية.
تحضر شخصية (سناء) في الفيلم التي تؤدّي دورها الفنانة أروى لتمثِّل حالة خاصة في حياة حسين، هي ابنة صديقه، في الثامنة والعشرين من عمرها، تحب حسين لكن علاقتها به بين مَدّ وجزر من جانبه، هي لا تعرف بمرضه، لكن أخته نادرة تتبرَّع بأن تخبرها الحقيقة التي حرص حسين أن يخفيها. وفي هذا السلوك نقطة سلبية أخرى في شخصية نادرة، فهي لا تتعاطف مع زيارات (سناء) له، بل تخاف على ابنها (سيف) من سناء، لذا تبادر إلى كشف الحقيقة.
أداء خالد أبو النجا في «فيلّا 69» الذي نال عليه جائزة أحسن ممثِّل في مهرجان أبو ظبي السينمائي 2013 كان في أفضل أدواره، حيث لا يتشابه مع أدوار سابقة قَدَّمها، وبدت متشابهة إلى حَدٍّ ما، سواء في طريقة الكلام، أو تسريحة الشعر أو الثياب. يُمثِّل أبو النجا في «فيلّا 69» دوره من الداخل ولا يتَّكل على مميّزاته الشكليّة، أو طريقته المعروفة في الكلام. نشاهد رجلاً خمسينياً مريضاً يواجه العجز بتحدٍّ ساخر، ويرفض العطف المقدَّم له، لكن، حين يحصل على حبّ بريء من دون التباسات- كما هو الحال في علاقته مع سيف وآية- فإن أقنعة القسوة تذوب فجأة، كما في المشهد الأخير حين ينطلق حسين مع سيف وآية بسيارة والده العتيقة، كي يطوف في شوارع وسط البلد عند الفجر، منتصراً للحياة على العزلة والمرض.
لم تنهِ المخرجة الفيلم نهاية تقليدية توحي باقتراب موته أو بموته الفعلي، كما لم نشاهد الحفل المتوقَّع للفرقة التي ينتمي إليها سيف وآية، هذه التفاصيل ليست هي جوهر الفيلم بقدر ما هي العلاقة الإنسانية التي تتشكَّل بين حسين والشابّين.
أما شخصية نادرة (لبلبة) المطروحة منذ البداية على فإنها انتهازية إلى حَدٍّ كبير، فلم يتمكَّن السيناريو أو الإخراج من إيجاد حالة من التعاطف معها، إن كان في الحوار أو في حركة الكاميرا. حتى في المشاهد الأخيرة من الفيلم حين تجلس هي وحسين في سيارة الأب القديمة، وتخبره بمعرفتها أنه على وشك الموت، وأنها ستبقى إلى جانبه، هذا المشهد-على ما ينبغي أن يتوافر فيه من عاطفية وحساسية- لم يحمل أيّة مشاعر كافية لتحريك عاطفة المشاهد تجاه نادرة وتقدير موقفها، بالإضافة إلى أداء الفنانة لبلبة الذي تميَّز بكثير من الجمود.
من المهمّ التوقُّف عند حركة الكاميرا عند المخرجة أيتن أمين، حيث بدت أماكن التصوير التي اختارتها بعيدة عن التقليدية والرتابة، مساحات الضوء، استخدام ممرات الفيلّا، والحديقة في عدّة مشاهد، لقطات من مكان مرتفع قليلاً، مشاهد من النافذة، خاصةً المشهد الذي جمع بين سيف وآية حين كان سيف في غرفته، وآية تقف خلف النافذة وبينهما حوافّ حديدية، كذلك المشهد الأول لظهور آية، وحركة الإضاءة على وجهها عند زجاج الباب الرئيسي المُشَكَّل على هيئة مستديرة، وقد بدت هاته اللقطة من أجمل المشاهد، إلى جانب مشاهد النيل، واقتراب الفيلّا من حوافّ المياه، بحيث تكاد تكون ملاصقة لها.
كل هذه المشاهد منحت جمالاً بصرياً، وأبعدت المتلقّي عن الإحساس بالرتابة، أو بضبابية اقتراب الموت الذي يُشكِّل النواة الأساسية لفكرة الفيلم.
لنا عبد الرحمن