كل الطرق تؤدي إلى ميدان التحرير
لم يكن الذهاب الى ميدان التحرير في السيارة حلاً مناسباً هذه الأيام، ففي أوقات التظاهرات والاعتصامات تصبح السيارة عبئاً على صاحبها يقيد حركته، ولكي أصل من بيتي الى محطة المترو، ينبغي لي ركوب «التوك توك». لا بأس من مغامرة صغيرة مجمل اخطارها ينحصر في ميَلان «التوك توك» وسقوط ركابه، أو انسحاق «التوك توك» بين ميكروباص وسيارة أخرى. هكذا خيّل لي وسائق «التوك توك» الملتحي يعبر بخفة شاقاً طريقه بين عربتي ميكروباص، وعلى رغم هذا نجونا، مع أنني توقعت أن تكون هنا النهاية، قبل الوصول الى ميدان التحرير، فلا أكون شهيدة ثورة بل ضحية ميكروباص.
في محطة المترو، صعدت فتاة سمراء عشرينية، انضمت الى عربة النساء. الفتاة تُميزها السُمرة المصرية الأصيلة، شعرها أملس، وعيناها سوداوان، تأملتها طويلاً، شفتها السفلى ممتلئة قليلاً ويمكن وصفها وفق قول الشاعر «عذب اللمى». للنساء السمراوات سحرهن الذي يطيح عرش الشقراوات بمهانة، كما حدث لشجرة الدر، الألبانية الشقراء التي قضت عليها ضرتها بـ «القباقيب». نزلت الفتاة السمراء في محطة «الأوبرا»، قبل نزولي بمحطة واحدة. وعدت أنا للتفكير في حال ميدان التحرير الآن، بعد يوم على صدور الحكم على مبارك.
في أروقة محطة المترو، كان الباعة يفترشون الأرض، كالعادة، ليس هناك ما يلفت سوى الزحام الكثيف داخل المحطة، ولكن حين خرجت لم يكن الزحام كثيفاً في الميدان نفسه، وانتبهت الى قلة عدد الجنس الناعم. طفت داخل الميدان، في دورة كاملة، لم ألتق أحداً أعرفه، كما أن الجو العام هادئ الى حد كبير، لا هتافات صاخبة، لا خطب، لا تجمهر، فقط بعض التجمعات.
غادرت الميدان نحو شارع طلعت حرب، سمعت كلمة غزل لطيفة دفعتني للابتسام في وجه قائلها. تذكرت رواية «الحفيدة الأميركية» لإنعام كجه جي حين تقول بطلتها أنها وهي تلبس النقاب ولا يظهر منها سوى عينيها، سمعت جملة غزل عراقية أطاحت بكل مقاومتها: «شلون عيون تقرا وتكتب»، العينان من خلف النقاب تمكنتا بصمت من القراءة والكتابة… أي غزل عربي بامتياز هذا!
عبرت من أمامي مسيرة صغيرة لا تتجاوز عشرين شخصاً كانوا يهتفون «ثورة …ثورة حتى النصر». هذا الهتاف اعتدت سماعه في أوقات الحرب اللبنانية تحديداً عند الهتاف ضد اسرائيل. ولكن كما يبدو، فإن الهتافات الثورية متعولمة جداً ولا يمكن حدها في مكان جغرافي واحد، الهتافات الثورية، والشتائم العربية كما أظن متشابهة حد التناسخ. المهم في العودة الى المسيرة التي تهتف بالنصر وتتقدمها خمس فتيات محجبات، توقفت امرأة أربعينية في وسط الشارع تسير الى جانبي قالت بصوت مرتفع موجهة كلامها لأصحاب المسيرة: «يومين كمان وحتاخدوا أحكام عرفية»، كلامها دفع شاباً عابراً للتشابك معها في حوار غير مسموع، كانت نتيجته أن هتفت المرأة وهي تمضي في طريقها: «إبقى افتكر إنه في واحدة عدت في الشارع وقالت إنه حيحصل أحكام عرفية».
التقيت مع صديقتي في مقهى جروبي وانضمت الينا قريبتها، ثم مضينا نبحث عن كشك «ذهب» وهو مطعم صغير في الشارع تقدم صاحبته وجبات بيتية. لم نستدل على المكان المختفي في دهاليز جانبية، أكدت صديقتي أن مكان «ذهب» قريب من «آفتر إيت»، لكنها لم تتذكر المكان بالتحديد، فليس هناك ما يشي بوجوده على الإطلاق. أنقذنا اللقاء مع أحد الأصدقاء من الثوار بأن استوقفته صديقتي لتسأله عن مكان «ذهب»، فما كان منه إلا أن رافقنا الى هناك، وحكى لنا -خلال عبورنا ممراً شبه مظلم- عن محفظته التي سُرقت في المسيرة، خلال محاولته انقاذ فتاة من محاولة تحرش، اختفت المحفظة بكل ما فيها، وكان متأثراً على ضياع بطاقته الشخصية، أكثر من حزنه على المال.
في الممر الفرعي، وجدنا في محل «ذهب» طاولات خشبية، لكنّ المكان مزدحم ولم نجد سوى طاولة صغيرة نجلس إليها نحن الثلاثة، بعد قليل تمددت الأطباق أمامنا، الطعام لذيذ، وقطة سوداء تحوم حولنا تريد المشاركة. لم يبتعد الحديث عن الأحوال السياسية، وصراع «مرسي وشفيق»، ووصول الإخوان المسلمين للسلطة. في الواقع لم نكن نحن فقط الذين نتحدث في هذا الأمر، بل جميع من حولنا، حتى تلفزيون «ذهب» يعرض صوراً لميدان التحرير. وكأنه من البديهي أن يحكي المصريون في السياسة، أمام كل التحولات التاريخية التي تحدث الآن. ولكن من المهم القول أن الشعب منقسم أيضاً، ولا توجد منظومة فكرية واحدة توجهه، هذا على افتراض أن معظم الشعب المصري يناصر الثورة، لكنّ هذا ليس دقيقاً جداً، فمن ناحية يرى البسطاء والعامة- وهم كثر- أن قيام الثورة لم يأت في صالحهم، وتأتي هذه الفكرة بالطبع من الانفلات الأمني الذي حدث بعد قيام الثورة وقد كان متعمداً لتعزيز هذه الفكرة بين الناس، ومن غلاء الأسعار وتدهور الوضع الإقتصادي. ومن البدهي الاعتراف أيضاً بوجود فئة غير قليلة موالية للرئيس السابق، أما من تبقى من أنصار أبو الفتوح، ومحمد مرسي، فكما يبدو حتى الآن أن مواقفهم في تأييد الثورة تخضع لمصالحهم الاعتبارية. وبغض النظر عن النتائج العامة، يتضح أن مشاركتهم في النزول الى الميدان أو عدم المشاركة يرتبط بالحدث السياسي المناسب لتوجهاتهم أكثر من ارتباطه بموقف واضح وثابت لهم. يظل ما تبقى من الثوار الحقيقيين الذين يشعرون بالخيبة لوصول ثورتهم الى هذا المنحنى بين شقي رحى «العسكر والإخوان»، هؤلاء يرفضون الاستسلام لهذه النهاية، من منطلق أن من اسقط نظام مبارك، لا بد وأن يعيد الثورة الى مسارها الأول.
بعد مغادرتنا «ذهب» سرنا في شارع طلعت حرب، ثم اتجهنا الى الميدان، كانت الساعة الثامنة مساء، بدا أن الميدان ازداد عدد زواره، لكنّ الجو هادئ أيضاً، وليس هناك حضور إسلامي كثيف. شبان وفتيات يجلسون على الأرض، رجال يتجمعون ويأكلون الكشري في إحدى الزوايا، أما الباعة الجوالون، والنساء اللواتي يبعن الترمس والذرة المشوية فتضاعف عددهن عن ساعات الظهيرة. فكرت أن كل هذه الحشود لن يؤدي وجودها الى حدث مؤثر، فاللعبة اكتمل لاعبوها، ومرسومة مسبقاً.
في طريق عودتي الى محطة المترو، كان الزحام شديدا، ولكن في عربة – خمنت في البداية أنها للسيدات- تمكنت من الحصول على مقعد للجلوس، صعد ولد مشرد يبيع المناديل بدا عليه أنه أخرس ومصاب بلوثة عقلية ، تبين لي أن العربة لم تكن للسيدات حين لاحظت في آخرها وجود عدد من الرجال، كنت أنظر الى الصور والإعلانات في عربة المترو ، حين استوقفتني صورة أحمد شفيق وعمرو موسى ومكتوب في جانبها»امسك فلول». قلت في سري أن المترو تابع للحكومة، ورغم هذا نجد فيه من يهاجم أتباع الحكومة، هذا جيد إذا.
بعد قليل، سمعت شجارا بين أحد الركاب الولد الأخرس بائع المنايل، فما كان من الولد الذي تعرض للضرب الا أن كسر الزجاج داخل عربة المترو، حينها أصاب الرعب كل الجالسات وتدافعن الى مقدمة العربة، انتظارا لوصول القطار الى المحطة القادمة. تقدم أحدهم وهو ضخم الجثة من الولد المشرد وحاول تهدئته، ويبدو أنه نجح في ذلك، ولم أعرف بقية الحدث فقد نزلت في المحطة التالية. ركبت ميكروباص حتى أصل الى بيتي، ولم يخل الأمر من شجار طفيف وشتائم قوية بين سائق الميكروباص ومساعده، لسبب لا يعرفه الا هما وأولو الأمر. كنت أنتظر أن يكون حدث زيارة التحرير أكثر سخونة، لكن كل الأحداث لم يكن لها علاقة بالتظاهرات، ولا بالأمن أو الجيش، بل بالناس المضطربين والقلقين الذين صارت السياسة جزءا من حياتهم شاء من شاء وأبى من أبى.
د. لنا عبد الرحمن