نادين لبكي في ” هلأ لوين”

 

يتمكن متابع أعمال نادين لبكي، من التأكد أن هذه المخرجة اللبنانية والممثلة أيضا، قد سارت بخطوات واثقة مع فيلمها الجديد ” هلأ لوين”. لم يختلف أسلوب نادين في التصوير والإخراج وفي اختيار الموسيقى بل نضج أكثر من “سكر بنات” ، ويُمكن للمشاهد ملاحظة هذا النضج  في ذكاء طرح القضايا الشائكة والكبرى وسط أغنية جماعية، أو صورة  تختصر كل ما يمكن أن يقال عن بشاعة الحرب الأهلية وهمجيتها، رغم أنه لم يمض سوى عدة سنوات بين ” سكر بنات” و ” هلأ لوين”.

يأتي فيلم نادين لبكي في وقت عربي حرج، بحيث يعيد  التذكير بقوة بما  تفعله الحروب، والانقسامات الطائفية، وإن كانت هذه الطائفية لم تعد حكرا  على لبنان   ووصمة الحرب الأهلية التي  حفرت عشرين عاما من تاريخه، فقد وصلت نيرانها  إلى بلدان عربية أخرى ارتفع فيها صوت ” نحن وهم- مسيحي ومسلم- سني وشيعي”، إنه شريط النار الحارق للجميع بلا استثناء.

نشأت فكرة ” هلأ لوين” في شهر أيار  (مايو) 2008، حين عادت أطياف الحرب الأهلية تحوم حول لبنان بعد أن نزل المسلحون الى الشارع، وحينها  لا يمكن للمبدع إلا التعبير بطريقة ما-كما رأت لبكي- لذا جاءت طريقتها  في التعبير سينمائيا  ترصد ما تفعله الحرب من وجهة نظر مجموعة أمهات. لكن ليس لهذه الأسباب فقط تمكن هذا  الفيلم من حصد عدة جوائز، بل لأنه  يدين العنف والسلاح بلغة سينمائية تحتفي بالحياة  وبأبسط تفاصيلها الصغيرة.

رغم مشاهد الإفتتاحية التراجيدية والمؤثرة مع الموت المبثوث في فضاء مقبرة جماعية تختلط فيها قبور المسيحين والمسلمين حيث النسوة يرتدين الأسود وينتحبن بحزن يضاعفه لون السماء الناري والهواء المتعكر، إلا  أن أحداث الفيلم  تبدأ فعليا من  أحد دروب القرية التي تظل من دون اسم لكنها تشبه كل القرى اللبنانية، وتلك  القرى التي شاهدناها في أفلام الرحابنة. وفي مقهى القرية الصغير الذي تديره (آمال) البنت المسيحية التي تؤدي دورها  نادين لبكي، نتعرف  إلى  سائر شخصيات القرية  وإلى ربيع  الشاب المسلم الذي تحبه آمال  ويتميز  بوجود وشم  يبدأ  من أعلى ذراعه، يظهر فتوته الفائضة و حيوية حضوره.

تحضر النساء في ” هلأ لوين” بشكل قوي ومؤثر، بل يمكن القول أن المرأة هنا هي العنصر الفعال الذي تُحمله لبكي مسؤولية  إنهاء الحروب، وإذا كانت المرأة تظهر في ” سكر بنات” كداعم عاطفي في علاقة التواطؤ بين النساء أنفسهن مع مشاكلهن وقضايهن الخاصة، إلا أن الفكرة في ” هلأ  لوين” تأخذ  مسارا أوسع  عبر تثمين  العاطفة  الأمومية بشكل كبير وتقديم الفيلم من وجهة نظر أمهات الضحايا من الذكور. إذا كان المشهد الأول يقدم النسوة الثكالى لفقد الأبناء والأزواج  والأخوة، فإنه يؤكد على  بقاء المرأة بشكل أوسع نوعا  وكما، وهذا البقاء لابد  أن يوازيه فعل ما يُنهي الموت، والإنقسام الطائفي البشع الذي يصل إلى القرية من الخارج، عبر الخطاب الإعلامي الذي يؤجج الفتن الغافية ويشعلها من جديد خاطفا ضحية تلو أخرى. هنا  لا يمكن للمرأة إلا أن تكون أكثر حيلة ودهاء من القوة والبطش، من دوامة العنف التي تسلب الأجساد وترش الدماء بلا رحمة، لذا  تنفتح البوابة  الخشبية  للمقهى على مجموعة من النسوة الجالسات حول طاولة من الخشب القديم، ومع أغنية ” حشيشة قلبي” تبدأ النسوة بالعجن والخبز،وقلي حلوى الزلابيا في الزيت الساخن، ومع  كل هذه المشاهد الشديدة البساطة يتم  عجن  الخبز ومعه الحشيشة التي يكون الهدف من وضعها في الطعام إلهاء الرجال عن القتال، إنها المشاهد الأليفة التي تمررها لبكي عبر مشروعها  الفني سواء في الفيديو كليبات المصورة أو في فيلمها الأول ” سكر نبات” والآن في ” هلأ لوين”.

يحمل فيلم لبكي إدانة تامة للطائفية العفنة، وللإنقسامات التي تغوي أتباعها  بالخراب، لكن ليس هناك خراب جميل في فيلم لبكي، بل موت مفجع تقوم به إحدى النساء حين تُلقي الرصاص على ساق ابنها كي تمنعه من مواصلة قتال الطائفة الأخرى، إنه من أكثر المشاهد تراجيدية وقسوة، تؤكد لبكي عبره أن المرأة قادرة على القتل أيضا، وهذا صحيح حتما، مع أن صاحبة ” هلأ لوين” تكشف عن نماذج نسائية إيجابية  تسعى لؤأد  فتنة الطائفية بكل السبل حتى  عبر حيلة الأغواء وجلب راقصات لإلهاء الرجال عن القتال. إلا أن ما ينبغي قوله أن ثمة نساء أخريات حملن السلاح في وقت الحروب وساهمن في إشعالها أيضا.

لكن يظل ما يؤكد الدور الذي تُحمله لبكي للمرأة  نهاية الفيلم، حيث كل امرأة من طائفة ما، تقرر الانتقال للطائفة الأخرى، وإذا  كان على زوجها أو ابنها أو أخيها أن يقوم بالقتل فليبدأ بها هي، هكذا بأسلوب تراجيدي ساخر تختار  لبكي هذه النهاية الفانتازية، غير المطروحة  واقعيا، لكنها محبوكة فنيا ضمن النسيج الكلي للعمل .

يحمل  فيلم ” هلأ  لوين” رسالة تمجيد للمحبة ضد  أي نوع من الكراهية، وعبر نماذج تثير بالمُشاهد البكاء حينا، والضحك الموجع حينا آخر نجحت لبكي في ايصال فكرتها بنجاح، حين نرى خوري الكنيسة وشيخ الجامع يشتركان معا  في نبذ الحرب، مؤيدين بمواقفهما  ما تلجأ إليه النساء  من  شتى أنواع الحيل، وكما لو أن هذا  الفيلم  يرفع  عن المرأة تهمة إخراج آدم من الجنة، لأنها  تعمل في  ” هلأ لوين” على سحبه من لائحة الموت قسرا، ذاك الموت المجاني الذي يأخذ ضحاياه  بلا رحمة، ومن دون أن يذكر أحد أسماءهم.

د. لنا عبد الرحمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى