ذكريات مع ليالي الحلمية

 

ذاك الوقت الذي كنا ننتظر  فيه  قدوم الأبطال الذين كبروا معنا، كان خلال أيام شهر رمضان وكان الوقت صيفا ، يتحد فيه الحر مع الصيام، وفي وسط النهار كانت خيالات انتظار الأبطال تحتل ساعات العصر كله، مع  تخمين التوقعات لما سيحدث لهم ومعهم. كبر الأبطال، وكبرنا معهم. ورحل العراب الذي باركهم جميعا، وشكل هوياتهم التي عرفناها، رحل هو وظلوا هم معنا محنطين في زمنهم الأبدي.

الكتابة عن الذين يرحلون عنا مؤلمة، حتى وإن كانت لأشخاص لم نعرفهم واقعيا، ولم نعايش تفاصيلهم، ثمة معرفة أخرى تحضر عبر روحهم التي  تلألأت في الإبداع الذي صاغوه منها، وتلك معرفة أكثر عمقا وتأثيرا. تشق علي الكتابة عن أسامة أنور عكاشة، تشق علي حد الوجع،لذا ربما يبدو لي مُسكناً عن حدث موته الأليم سوى تذكره كما يعيش في ذاكرتنا عبر أعماله الدرامية، وتحديدا عبر “ليالي الحلمية”.

في ذاك الوقت لم يكن هناك فضائيات شتى نحتار في الإختيار بينها، وننسى في متاهة تقليب القنوات العودة لما أردنا اختياره .. الزمان الذي أحكي عنه ليس ببعيد كثيرا، لكن أذكر أن جميع أفراد الأسرة  كانوا ينتظرون بشوق حلقات مسلسل ” ليالي الحلمية”، ومن قبله  “الشهد والدموع” تلك الملاحم الروائية الكبرى- لأولئك الأبطال – كانت  جزءا  من أمسيات مشتركة نمضيها معا ونعيش آمال أبطالها وأحلامهم، وإخفاقاتهم السياسية، وفشل علاقاتهم العاطفية، وأفراحهم الصغيرة أيضاً، لأنهم لم يفرحوا كثيرا، ثمة آلام وأحزان كانت في الطريق إليهم دوماً.

مع مرور السنوات، كنا نكبر، ويكبر معنا الأبطال، لا  أذكر  شيخوخة  راقية مثلما كانت شيخوخة الباشا سليم البدري في الحلمية، ولا عفوية جذابة  كما هي عند العمدة سليمان غانم، ولا جبروت أسطوري كالذي في شخصية  نازك السلحدار..  ذاك المسلسل الذي مضى على عرضه أعوام طويلة مازال عالقا في الذاكرة، ليس لأنه لم يدخل ساحة المنافسة في زمن وهج الفضائيات، بل لأنه امتلك مقومات الحياة الدرامية الفنية، رغم تعاقب السنين عليه.. مازلت حتى الآن قادرة على مشاهدة حلقات ليالي الحلمية والاحساس باستمتاع مختلف مع كل مرة، إنه احساس نابع من اختلاف الرؤيا بحكم اختلاف التلقي، والقدرة على اكتشاف خفايا العمل التي لا يمكن ملاحظتها واكتشاف جمالياتها من المشاهدة الأولى.

توقفت عند مسلسل ” ليالي الحلمية” – تحديدا -لأنه المسلسل الأطول في ذاكرة الدراما العربية، لقد وصل إلى 150 حلقة، ومن خمسة أجزاء، تم عرضها جميها خلال أشهر رمضان، لكن ليست هذه هي الميزة الرئيسية في هذا العمل، بل لأنه  ضم  ومضات مؤثرة من تاريخ مصر منذ نهاية  العهد الملكي، وحتى سنوات التسعينات، لقد تمكن أسامة أنور عكاشة عبر أبطاله المتنوعين من الحديث عن حقبة الثورة، بما لها وما عليها، كانت شخصية علي البدري، التي قدمها “ممدوح عبد العليم” من أكثر الشخصيات إثارة للإهتمام، ليس بسبب الحبكة الدرامية فقط،  بل لأنها شخصية مركبة جدا تصاعدت وتيرة تناقضها وحدتها في نهاية الجزء الثالث، وعلى مدار الجزء الرابع، وهذان الجزءان هما الأكثر تماسكا على المستوى الدرامي.  أمسك “عكاشة”   فيهما بداية خيط التحول في المجتمع المصري، بداية طغيان عصر التسليع، وزوال الطبقة الوسطى، وسيطرة رجال الأعمال، وشيوع الفساد، وزحف التعصب الديني الذي تصاعد نحو الإرهاب.

استطاع “عكاشة” تقديم حياة الناس البسطاء في الحارة الشعبية وفق صورة تشبههم حقاً ولا تبتعد عنهم، وفي زمن التحول بعد أن تبدلت الحارة، وتغيرت معالمها كما تغير المجتمع كله، لم يغب عنه ما يحصل، بل ظل قلمه أشبه بمجس ينبض بوعي حساس  مُنبهاً لمكان الخطر. كانت قهوة  “زينهم السماحي” في ” ليالي الحلمية” مكانا  يجتمع فيه الثوار ليضعوا الخطط لمقاومة الإنجليز ،كانت مكانا يلتقي فيه أبناء البلد، والفتوات، والباشاوات أيضا، لكنها في التسعينيات صارت وكرا للشباب العاطل عن العمل، الذي يتعاطى حقن ” الماكس”. هكذا  كانت رؤية “عكاشة” للواقع، رؤية خالية من التحامل بل فيها كثير من النبؤة. ربما لهذه الأسباب ظل كل ما انتجه “عكاشة” بعد هذا العمل أقل قامة من “الليالي”، التي كان فيها جزءا  من تاريخ  الكاتب ومن ذاكرته، بل  كان فيها نفحة  من روحه.

رحل أسامة أنور عكاشة، حقيقة كبرى علينا تقبلها، مضى من عالمنا..هذا صحيح.. لكنه لم يمض تماماً، ثمة الكثير مما تركه لنا يخلد وجوده .

  د. لنا عبد الرحمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى