لنا عبدالرحمن تستدعي الحنين في “تميمة العاشقات”

نطلق الكاتبة لنا عبدالرحمن في روايتها الجديدة “تميمة العاشقات” (الدار المصرية – اللبنانية في القاهرة)، من زمن مستقبليّ، يتصارع فيه البشر مع الروبوتات. ثمّ تستدعي أحداثاً من عصور ما قبل التاريخ، حيث كان الناس يعيشون في كهوفٍ، ويتصارعون مع الضواري، مروراً بأزمنة متلاحقة، ومن بينها الزمن الراهن.

وفي هذا الانتقال الزمني، تتكئ الكاتبة على واقعية سحرية عبر لعبة سردية قوامها “خيوط فضية”؛ تتدلى من “أثير”. ترصد الرواية قصة زينة، الشابة التي تعيش بشرائح إلكترونية، تلك الخيوط المتصلة المنفصلة وتكتب رواية بمساعدة روبوت يدعى “رام” برمَجَته بنفسها فصار عبئاً على حياتها الخاصة التي تعتقد أنها امتداد لحيوات عدد من النساء توارثن عبر حقب متتالية “تميمة عشق”.

والتميمة هنا عبارة عن قرط ياقوتي ارتبطت به مصائرهن في ظل واقع ارتبط دائماً بحروب وأوبئة فتَّاكة، خلال ترحال من مصر القديمة إلى الهند والأندلس والمغرب والشام والعراق وجبال لبنان وفرنسا وأذربيجان. تعتقد “زينة” كذلك أن روح المرأة الأولى في تلك السلسلة حلَّت في أجساد التاليات لها زمنياً من نساء السلسلة ذاتها، وفي الأخير وصلت إليها مع تميمة العشق التي كان لكل منهن حكاية معها. ومن ثم فإنها تستمد من تذكرهن القوة اللازمة للتمرد على حياة تخلو من دفء المشاعر الإنسانية، بعدما تحول إنسانها إلى مجرد آلة.

من زمن لم يأتِ بعد

تتولى “زينة” زمام السرد الذي يظهر بحروف كبيرة مقارنة بحروف سرود كل امرأة في سلسلة العاشقات والتي تخصص تلك المنتمية إلى زمن لم يأتِ بعد لكل منهن “خيطاً”، ومن ثم يشتمل المتن على سبعة خيوط. يختتم المتن بـ “خيط فضي أخير”، خصصته “زينة” لتأملات أخيرة، وبوح من مكان في الفضاء، وربما يفسر ذلك الآلية السحرية التي استخدمتها للتنقل بين الأزمنة: “أتيتُ إلى هنا كي أدرك أن الضوء العتيق الصادر من الأرض منذ آلاف السنين ما زال مرتحلاً عبر الفضاء، وأن عليَّ الانتقال ملايين الكيلومترات لأعيش في زمن سابق” صـ 221.

تفتتح لنا عبدالرحمن باقتباس من الشاعر والروائي الألماني غونتر غراس: “لا تمضِ إلى الغابة / ففي الغابة غابة / ومن يمضي إلى الغابة / لا يُسأل عنه في الغابة”، وهو تمهيد مناسب للمتاهة التي ستأخذنا إليها بطلتها “زينة” التي ترى أن القدرة على التيه، “تستوجب معرفة بدرب الرجوع”، مستدعية في بداية رحلتها عبر الأزمنة مقولة منسوبة إلى الربة إيزيس: “أنا كل ما كان، ويكون، وسوف يكون، وما من بشرٍ فانٍ رفع عني ردائي”.

خيوط فضية

الخيط الأول مخصص لحكاية “آلارا”، كاهنة معبد إيزيس، في مصر القديمة، وتبدأ من العام 1542 قبل الميلاد، عندما تقرَّر أن تقدِم فتاةٌ نفسها للإله حابي وفقاً لطقس “عروس النيل”، لكنها تقرر النجاة بنفسها من هذا المصير، ويساعدها مراكبي يدعى “جيما” على اللجوء إلى معبد إيزيس، لكنها بعد نحو ثلاثة أعوام على مكوثها هناك تجد نفسها منساقة إلى مقابلة المراكبي سرًا، إلى أن “فُتِنت بما علمها من فنون العشق، تحمل منه وتنجب بنتين توأمين.

ومن ثمّ تمر الأيام لتصبح هي كاهنة المعبد، بعدما انصرفت عما يعتبرها محيطها خطيئة لا تتناسب مع التفرغ لخدمة إيزيس… “لن يكتب أحدٌ قصتي. ستظل مجهولة ما لم أحكها. قيل إني سبع مرات سأحيا، وفي سبعة أجساد سأموت، وإن حكايتي ستظل محجوبة لألف عام وألف” (صـ 27).

وعبر ذلك الخيط نفسه، نعرف أن مومياء “آلارا” أكتشفت في الأقصر عام 1895 ونقلها الكونت “نيكولا” إلى باريس، لكن إحدى حفيداته ستقوم بتسليمها إلى عالم آثار مصري ليقوم بإعادتها إلى مصر. وهكذا ينقلنا الخيط الثاني إلى حكاية آلارا الحسيني، أو آلارا الثانية (القاهرة – 2013)، وهي أقرب سسلة النسوة التي تورد الرواية حكاياتهن إلى زمن “زينة”، آخر حبَّات السلسلة المتصلة المنفصلة.

آلارا الثانية، هي فنانة تشكيلية، أمّها ميري مجيد، ممثلة مصرية من أصول لبنانية، تزوجت من عالم الآثار حازم الحسيني وهو من أب مصري وأم فرنسية. تمرّ آلارا الثانية بأزمة نفسية عقب طلاقها من عدنان، فتسافر إلى الهند لتتعلّم فنّ الخطّ العربيّ على يد خبير فيه يدعى حسين تبريز، وهناك تتذكّر أنّ أزمتها أعمق من مجرد طلاقها، فقد كانت في عام 2011، “لا تقوى على الانفصال عن أصدقائها، تتخيّل أنّهم مع الثورة سيغيرون العالم، ثمّ تفرّق كل منهم في طريق. هم لم يفترقوا فقط بل غلبت عليهم خيبة أمل مؤذية”، بحسب راوٍ عليم.

وبعد بضعة أشهر قضتها في الهند، تعود آلار الثانية إلى القاهرة، لتجد أن قريبها علاء الحسيني قرر ترك دمشق بعد احتدام الثورة هناك ضد حكم بشار الأسد، والعيش في مصر. ستتزوج آلارا من علاء وسينجبان ولداً وبنتاً، وبعد عشرين عاماً (أي تقريباً في العام 2033) ستموت بسبب وباء غامض أنهى مع أوبئة أخرى متتالية حياة ملايين البشر.

بين الذاتي والخارجي

وهكذا في بقية الخيوط، يتوزع السرد ما بين الذاتي والخارجي، متنقلاً دائماً بين الماضي والحاضر والمستقبل بتداخل الأزمنة والشخوص والأحداث، فنجد أنفسنا أمام سبع روايات متصلة / منفصلة في ثنايا رواية واحدة كتبتها غالباً “زينة”، التي تقول إنها سمعت حكاية آلارا الحسيني ربما من أمها أو جدتها؛ “أو ربما أكون واهمة.

وتضيف أن “محاولة الاقتراب من ذاكرة الأثير وتتبع خيوطها الفضية تعني مواجهة التجربة التي تخص أرواحاً عتيقة في كل ما عاشته من آلام ومسرات. هنا مخبأ الذكريات، الخيالات، الماضي، المستقبل، أشكال وصور، وأسماء تكشف عن نفسها ببطء وخفة، تعبر من أمامي، فأحاول بسرعة استدعاءها من ذاكرتي الأعمق” ص 78.

الخيط الثالث مؤرخ بـ 1965 ويخص “ميري مجيد” المولودة في جبال لبنان، ويبدأ من هجرتها إلى مصر، بعدما تنبأت لها أمها وتدعى “آسيا” بأنها ستسافر مع غريب ولن ترى إحداهما الأخرى بعد ذلك. سيرتبط اسمها بحسب الراوي العليم، بدور لم تعرف أنه سيكون مهماً في تاريخ السينما المصرية.

أما الخيط الرابع فيخص حكاية “آني داديان” ويبدأ في أيلول (سبتمبر) 1918 في أذربيجان، وينتهي في لبنان، ومن خلاله سيظهر القرط الياقوتي الذي ستتوارثه أجيال عدة تنتهي بزينة. هذا القرط كان هدية تلقتها “آني” من جدتها إلزا، في ظل مذابح تركية – أذرية لاحقت الأرمن، وشردت الناجين منهم في بقاع مختلفة من الأرض. والخيط الخامس بطلته “رحمة”، وبدايته كانت في العام 1772 في العراق حيث تعرضت البلاد لوباء الطاعون. ستقابل “رحمة” في عند وصولها إلى كركوك في رحلة هروبها من الوباء رجلاً يدعى “هوفان” ترجع أصوله إلى هضبة أرمينيا وتتزوجه لتنجب منه ولداً وبنتين. الخيط السادس بطلته “سولاي” وبدايته عام 1230 في إشبيلية. يتم سبي “سولاي” ويصبح اسمها “شمس الصباح” بعدما تعلمت اللغة العربية وأجادت العزف على العود والغناء.

ترحال دائم

 تضطر شمس الصباح إلى الخروج من الأندلس إلى فاس، ثمّ إلى بغداد قبل أن تغادرها بعد زحف المغول إليها، وينتهي بها الترحال إلى الشام، ثم تستقرّ أخيراً في جبل لبنان حتى نهاية حياتها.

وتنتهي الرواية بـ “خيط فضي أخير”، حيث تتأمل “زينة” التي ولدتها أمها مستعينة ببنك للنطف، مصائر أولئك النسوة التي كانت تراهن في أحلامها يمضين في دروب عسيرة لم يتمكنَّ من العودة منها. وتحكي عن حالها إذ تطارح الروبوت “رام” الغرام، “لكن لم يحدث أن أحسَّ جسدي بالرعشة” صـ 211، ومن ثم تتمنى التحرر من كل ما غرس في جسدها من شرائح إلكترونية. تخبر أمها بأنها تشعر بالحنين إلى خطيبها السابق “آدم” بعدما وصلت إلى طريق مسدود مع الروبوت “رام”، فتقول لها: “الحنين كلمة لا يعرفها أحد. يبدو أنك متأثرة بالحكايات التي تكتبينها عن جداتك، إياك أن تكرري هذه الكلمة، ربما يضعونك في المستشفى لو ظهرت عليك بوادر الحنين. هذه الكلمات ممكن استخدامها فقط في الكتابة وليس في الواقع” (ص 131).

لكنها تستمد من روح التمرد التي لطالما ميَّزت جداتها، الطاقة اللازمة للفرار إلى عالم أثيري حيث ترى كيف تسبح الأفكار في فضاء الكون وتشع ذبذباتها هي الأخرى، تماماً كما ينتشر الضوء أو الصوت. هكذا أدركتُ أن الأفكار كما الموسيقى، كما الكلمات، حكايا حقيقية سرمدية لا تعرف حدوداً، ولا آفاقاً، ترتحل فقط عبر الأثير”

علي عطا

النهار العربي : بيروت

زر الذهاب إلى الأعلى