عادل عصمت يقتفي آثار “ناس وأماكن”
تُشكل الكتابة عن المكان في كثير من الحالات حلقة وصل مهمة بين زمنين، يقدم الكاتب رؤيته لهما كونه كان شاهدا على انعطافات وتحولات عايشها أو كان مشاركا بها، ومثل هذا النوع من الكتابة تحتاجه المكتبة العربية، ليس لأن التحولات السريعة اقتحمت أماكننا ودنيانا أسرع مما نتوقع، بل لأن هذه الكتابة أيضا تنتمي في نبضها الحي لتقديم وجهة نظر عن تأريخ تشتبك معه أحداث السياسة وتغيرات المجتمع الريفي والمديني أيضا، بل انتهاء مراحل ربما احتاجات الأجيال القادمة لمعرفة شيئٍ عنها، بعد أن تزول تلك الملامح تماما.
النص الذي يقدمه عادل عصمت في “ناس وأماكن” ( دار الشروق – القاهرة ) ينتمي لهذا النوع من الكتابة. إنها وجهة نظر روائي يتأمل في أحوال بلدته التي تبدو جزءا متشابها أو مصغرا عن الريف المصري في وجود تقاطعات مشتركة مع الريف عموما شاهدناها في الأعمال الدرامية الجادة، وقرأنا عنها ضمن الأعمال الأدبية الكثيرة التي تناولت الريف المصري. بيد أن ما عمل عليه الكاتب في نصه هذا هو مقاربة وجهة نظره الدقيقة الراصدة لما يحدث في محيط صغير، وشبك تلك لرؤية بالكيان الأكبر لمصر ككل.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام ،”قرية منسية” هو عنوان الجزء الأول المكان فيه هو مدينة (طنطا) وضواحيها الريفية، والسؤال الذي يلف النص منذ البداية إلى النهاية يتلخص في فكرة ” الإنتماء”، التي تحضر في مواجهة الهوية الفردية.تشتت الحضور الجمعي مقابل بروز “الأنا” وحضورها وفرضها لذاتيتها. يحدث تقديم هذه الرؤية بسلاسة بالغة مع بيان الأسباب وكشف أسبابها الكثيرة، ومحاولات الثبات التي لا يمكن لها أن تُرمم الانشطارات التي ستحدث لاحقا. في النتيجة عبارة ” المكان بناسه” هي عبارة صحيحة جدا تنطبق على كل الأماكن، ولا يمكن للمكان الثابت الجامد أن يتغير بدوره من دون رصد ما فعله الأشخاص به، وما فعلوه بحياتهم.فالحارات التي تشعر فيها بالحياة الجماعية، ويشم الجيران رائحة طبيخ بعضهم،ويسمعون حوارات الأب وأبنائه، تلك الحياة المتلاصقة سواء في البيوت، أو في الحقول حيث العمل الجماعي للأفراد في الأرض، لم يعد لها وجود. هذا النموذج من الحياة الذي ساد في الريف حتى سنوات الخمسينات لن يلبث أن يزول تدريجيا لتحل مكانه أساليب جديدة بدأت تعرف طريقها للقرى البعيدة. يسري هذا الكلام أيضا على العلاقات الإنسانية سواء لنقرأ :” في بداية السبعينيات، كان جيش من الشباب قد تم إفرازه من المدارس. شباب تعلموا في المدن وعادوا في الإجازات…علاقات الحب بين الشباب المتعلمين والبنات الريفيات اشتعلت وانت تلك العلاقات مثيرة وخطرة ومختلفة عن علاقات الغيطان ذات السمة الواضحة. أثرت الجو الراكد للبلد، وخلقت موضوعات للحديث ومشاكل بين الناس..الأمر مختلف في علاقات الغيطان حيث الزمالة في الزرع والحصاد والري وتحميل المحاصيل تطبع العلاقة بين الجنسين بطابع العمل وثقافته”
ليست العلاقة بين الشاب والفتاة هي التي تحولت هنا فقط، بل انحسار مرحلة الحياة الزراعية وتقلصها بحيث لم تعد تمثل هوية كاملة لبلدات الريفية. مثل هذا الرصد يمكن تطبيقه على سائر الريف المصري، في ما حدث من تحول أهله ونزوحهم نحو المدينة أو سفرهم للعمل خارجا، .يختم الكاتب هذا الجزء بعنوان “شاخت الأرض”، وفي هذه المقالة يبدو كما لو أن ثمة مرحلة من حياة الريف المصري قد تلاشت ليحل مكانها واقع جديد، تتبدى ملامحه أكثر مع القسم الثاني الذي حمل عنوان “أطياف المدينة”. يتناول عصمت في هذا الجزء سيرة أشخاص وأماكن وأحداث بارزة أيضا، مثل مولد ” السيد البدوي”، وما يرافقه من طقوس وتجليات وظهور لأشخاص لا يحضرون إلا في هذه المناسبة السنوية، إن ” طقس زيارة المولد، هو إجراء للحماية، يدبره الناس لكي تستمر حياتهم. الرجال يمارسون ما لا يمارسونه في قراهم، وكذلك بعض النساء، والمولد هو ساحة الشباب للاكتشاف…يبدون للناظر من الخارج سذجا لا يمكن فهم سلوكهم ، لماذا يقطعون كل تلك المسافات ليأتوا كل عام إلى المولد؟” لا تخلو النصوص من الحديث عن البعد الخفي والماورائي لمدينة طنطا المحروسة بصاحب المقام السيد البدوي، وعن قناعات أهلها بأن ثمة سر غامض لروح المدينة.
تمثل سيرة مقاهي المدينة في هذا القسم، محورا مهما أيضا لفهم تحولات المكان، المقاهي هنا لكل منها هوية خاصة ومستقلة عن غيرها، مقهى ” الأقصر” هو الوحيد الذي اشتمل على بار”، ويحكى عنه أن توفيق الحكيم كان من رواده عندما عمل نائبا في الأرياف، أما “القهوة المصرية” فهو مقهى له طابع شبابي ظل محافظا عليه حتى مطلع الثمانينات. في مقهى الأقصر تدور النقاشات السياسية الجادة وفي ” الليل أثناء الصيف يصبح المقهى شاعريا” مع الضوء الباهت وشجرة البونسيانا التي تتساقط ورداتها الحمراء على الشرفة. لكن نهاية هذا المقهى جاءت بشكل دراماتيكي حين تم هدمه في عز توهجه في نهاية الثمانينات لصالح مستثمر شاب وبنى مكانه برج على الطراز الحديث. ولم يبق من المكان إلا أطلال حكايات يتداولها رواده القدامى، لن تلبث أن تتلاشى من الذاكرة. هناك أيضا “القهوة التجارية”، التي جذبت رواد مقهى الأقصر، لكن الفرق بين رواد المكانين فرقا كبيرا، يقول : ” المستقبل في ذهن شباب التجارية يضع فساد المجتمع في خلفية اللوحة ويركز على اكتشاف الثقوب التي تسمح بالحياة”
ليست المقاهي فقط التي يتوقف الكاتب أمام تحولاتها، بل الأحياء والشوارع، ودور السينما، وألوان الثياب وتسريحات الشعر، ثم ظهور محلات جديدة وأكشاك تصوير الورق، ومحلات البيتزا، وسايبر النت وغيرها من الأماكن التي تمددت في المدينة وشغلت مناطق كانت مهجورة في وقت ما.كل هذا انعكس على حياة البشر ويومياتهم، على الطلاب وسنوات الدراسة الجامعية التي من الممكن أن تنتهي بالحياة التقليدية أو بالمناصب العليا، أو بالموت بسبب جرعة مخدرات زائدة.
أو رغبة الشباب بالفرار في قوارب الموت نحو “أماكن بعيدة”، فينتهي مصيرهم بأن يكونوا غرقى وضحايا يقذف البحر أشلاءهم إلى اليابسة، فيما يظلون أحياء في مخيلة ذويهم، تقام حولهم أوهام لا حصر لها، بأنهم يعيشون عيشة هنية في تلك البلاد البعيدة.
لعل المتابع لأعمال عادل عصمت الروائية مثل “حكايات يوسف تادروس” و “الوصايا” وغيرها من الأعمال الروائية يلاحظ كيف أن هذا الكاتب يمضي بخطوات ثابتة في مشروعه الابداعي، كما أن هذا النص لا ينفصل أيضا عن طريقة كتابته الروائية التي تمتاز بالتماسك وعمق الرؤية أسلوبا ومضمونا، دون نبرات عالية في عرض أفكاره، حيث يميل لاختيار الأفعال والمفردات التي تصل لجوهر الفكرة بعيدا عن الاستطرادات اللغوية التي تثقل النص وتشعبه أكثر مما تؤدي به إلى غايته.
لنا عبد الرحمن