في ممر الحقائب الضالة.. العالم السفلي للمطار
تعلمت شراء حقائب سفر بألوان غريبة، كانت تثير سخريتي فيما مضى. في اليوم الذي ضاعت فيه حقيبتي السوداء المتشابهة مع آلاف الحقائب في كل مطارات الأرض، وجدت المبرر لاختيار الرجل ذو الشارب الرفيع حقيبة يتداخل فيها اللونين الموف والناري، تلك الحقيبة بدت لي في احدى السفرات مثل علم يلوح في المطار عن بعد، حتى يمكن الإشارة إلى الرجل عبر حقيبته. عرفت أيضا لِمَ يضع كثير من المسافرين في مطار القاهرة شرائط صفراء، وحمراء، وخضراء على حقائبهم، أو يكتبون أسمائهم عليها بقلم تلوين بارز.
ضلت حقيبتي طريق عودتها إلي في مطار القاهرة ، ويا له من ضلال مكنني من اكتشاف عوالم كنت أجهلها تماما، ولم أتخيل وجودها. ما كنت على يقين إن وصلت الحقيبة معي في ذات الرحلة، أو أنها ذهبت الى بلد آخر، أو حلت في ضيافة أحد ما، وضمن مخيلة بوليسية سريعة ؛ ربما اشتبكت مع فيلم عربي رديء أن مجموعة من الأوغاد اختطفوا حقيبتي- بالصدفة حتما- ليهربوا فيها الألماس أو المخدرات، وأن زعيم العصابة يقهقه الآن ضاحكا وهو يفتحها ويلقي بأغراضي وكتبي على الأرض ثم يضع في الجيب السري ما يود تهريبه، ثم يعيد الأغراض إلى مكانها بعشوائية ولامبالاة من احتمال كشف أمره.
* * *
في مبنى ملاصق لمطار القاهرة، رفع الموظف رأسه بملل وطلب مني أن أكتب بيانات الحقيبة المفقودة، ثم قال لي :
” ربما تكون ذهبت إلى الأمانات”. بعدها حاول الاتصال بشخص ما، ثم طلب مني الانتظار ريثما ينتهي الموظف المسؤول عن الأمانات من أداء صلاة المغرب، أشار لي بالجلوس، وكان ذهني مشغولا في استعراض محتوى الحقيبة، ومدى حزني في حال فقدانها.
تخيلت غرفة الأمانات بأنها غرفة صغيرة أنيقة، لها باب خشبي، مفروشة بالموكيت الأحمر، وفيها مكتب صغير للموظف يجلس إليه بينما يدخل صاحب الحقيبة التائهة ؛ ليظهر له بيانات حقيبته قبل أن يتسلمها، خمنت وجود بضع حقائب حكايتها متشابهة مع حقيبتي؛ لكن الحقيقة كانت غير هذا على الإطلاق.
بعد مضي نصف ساعة من الانتظار جاء الموظف الأول الذي سأذهب معه الى الطابق الأرضي عبر سلالم حديدية ضيقة، أدت بنا إلى دهليز عريض، وهناك استدعى الموظف الذي رافقني مساعده الأصغر سنا، كان شابا لا يتجاوز الثلاثين، نحيفا، وقصيرا، ستساعده هذه الصفات فيما بعد على تسلق جبال الحقائب بحثا عن حقيبتي. سرت معه، نحو غرفة الحقائب الضالة لهذا اليوم فقط، في الحقيقة هي لم تكن غرفة بالمعنى الدقيق ؛ بل مساحة مسورة بشبك يشبه الموجود في السجون، وخلفه تكتظ مئات الحقائب فوق بعضها، وبجانب هذه المساحة،توجد غرفة أخرى أكثر اتساعا ملقى فيها شنط مضى على ضياعها أسبوع أو أكثر، إذ في حديثي مع الموظف النحيل – واسمه أحمد- عرفت بوجود حقائب منسية منذ شهر أو أكثر، بل هناك حقائب لأشخاص قضوا في الطائرة أو المطار،وصلت حقائبهم، ولم يصلوا هم، وقد يأتي أقاربهم فيما بعد ليطالبوا بها، أو تظل منسية حتى إشعار آخر. ربما لم تكن كل الحكايات التي أخبرني بها ” أحمد” صحيحة، أو أنه استعذب حالة الدهشة التي علت وجهي مع كل قصة، وثمة احتمال ثالث أن منقذ الحقائب أراد أن يُشعرني بخطورة مهمته، وهذا حقيقي بالفعل.
حكايات وحكايات.. هنا العالم السفلي للمطار، الذي ليس له علاقة بالرحلات القادمة أو المغادرة. هنا لا يصل أي صوت يطلب من الركاب التوجه إلى قاعة الانتظار. ولا شاشة تعرض مواعيد الإقلاع والوصول، إنه عالم الظلال المسافرة، التائهة، المنسية، في محطة مجهولة تحت الأرض بلا اسم أو عنوان.
هنا توجد رائحة عطن قديمة، ومكاتب متهالكة، وموظفين أصابهم من القِدم ما أصاب المكان. لا توجد في هذا المكان بهرجة واجهات السوق الحرة وإغراء مشترواتها، لا عطور،لا شوكولا، ولا رائحة قهوة مغرية، أو سندويشات دجاج ملفوفة بورق أبيض شفاف. لا وجوه غريبة هنا، لا سواح، لا مغتربين ينتظرون الطائرة التي ستنقلهم الى بلد آخر ليبحثوا فيه عن فرصة عمل جديدة. لا سيدات أنيقات يبددن الملل بسفرة إلى الخارج، ولا رجال أعمال تلمع في معصمهم ساعة ” رولكس” ويتحدثون مع شركائهم عن الصفقات القادمة، لا يوجد هنا أطفال يبكون، ولا سائح أوروبي يضع قرطا فضيا في أذنه ويلف ذراعه حول رفيقته الشقراء. هنا وجوه منهكة تنتظر انقضاء ساعات العمل، لتعود الى البيت،وصوت أغنية أم كلثوم ” فات الميعاد” يرتفع من جهاز تسجيل قديم.
بحث “أحمد” عن مفتاح الباب الصغير الذي يفتح الغرفة المسجونة فيها الحقائب، ولما لم يجد مفتاحا مطابقا في سلسلة مفاتيحه، طلب مني الانتظار ريثما يعود. بدت لي الحقائب المتفاوتة الأحجام من خلف الشبك مثل أطفال ضلوا عن أهاليهم وينتحبون من شدة البكاء، وقعت عيناي على حقيبة لونها أحمر وحوافها ذهبية،فكرت كيف يمكن أن تتوه مثل هذه الحقيبة الأنيقة! تخيلت صاحبتها امرأة مولعة بالحياة حتى لو كان عمرها تسعين عاما، أي مقتنيات ممتعة تخفيها الحقيبة الحمراء، تمنيت لو أعرف ! غاب ” أحمد ” عدة دقائق ثم عاد ومعه المفتاح. فتح الباب، وفي قفزات سريعة كان يتحرك بخفة مقارنا بين الاسم والرقم الموجود في الورقة التي يمسكها في يده وبين الحقائب المكدسة أمامه. كان بودي المساعدة توفيرا للوقت والقلق، لكن يتعذر العبور إلا قفزا، ومع كل حقيبة يتبين أنها لا تخصني ازداد يأسا في الوصول الى الهدف. لا يمكن معرفة كم انقضى من الوقت على البحث، إذ يتوقف مؤشر الزمن هنا ليمضي في الاتجاه المعاكس. فكرت لو كان لون حقيبتي “موف” أو ” أحمر ناري ” أو “أصفر فاقع “، لكانت برزت ببهاء في جمهورية الضياع هذه، لكنها حقيبة سوداء محتشمة ليس فيها أي لون غجري يوحي بوجودها عن بعد.
لكن رغم هذا، وقبل وصولي لليأس التام، ابتهجت أسارير ” أحمد ” وهو يقول لي : ” خلاص يا افندم، لقيناها”. صارت حقيبتي في يدي، مضينا سويا في الدهاليز الطويلة التي ستقودنا الى أعلى، وأصر “أحمد” أن يتقدمني حاملا الحقيبة، نحو السلم الحديدي الذي سيعيدنا الى العالم العلوي.
كان ينبغي على ساراماغو، أن يزور هذا المكان، ربما سيكتب رواية توازي روايته ” كل الأسماء”. حيث تتوه الحكايات المخزونة في الحقائب المنسية بانتظار من يلملمها من جديد، ففي كل شنطة حكاية صاحبها، وقصة ضياعه، ونسيانه . إذ لطالما ذكرني المطار، بيوم القيامة، ففي كل رحلة أحس أنها نموذجا مصغرا عن نهاية العالم. وفي ذاك اليوم اكتملت الصورة في ذهني، هنا توجد طبقات العذاب، وكائنات منسية في جحيمها الخاص لا يستمع لشكواها أحد لو طالبت بمكتب جديد، أو بتبديل باب مهترئ ذابت أقفاله، و في العالم العلوي كائنات أخرى تسعى في جحيم مختلف براق، ولامع، مزين ومزخرف له ألف وجه وقناع. في الأعلى يهدر صوت الطائرات ويمضي المسافرون على السلالم الكهربائية، لاهثين بخطواتهم نحو المجهول.فمن سيضمن لهم وصولهم أو وصول حقائبهم إلى المكان المتجهين إليه ؟ !
لنا عبد الرحمن