لنا عبد الرحمن، الكتابة في الظل

 

تكاد تكون رواية لنا عبد الرحمن الأخيرة “أغنية لمارغريت” (الدار العربية للعلوم ـ ناشرون)، مطابقة كثيرا لمفهوم الكتابة النسائية، لا لأن لنا تتطرق لمواضيع نسوية، بل لأنها تكتب بروح المرأة وبعقلها معاً. ودون الخوض في تعقيدات مصطلح الكتابة النسائية، فإن المرأة في “أغنية لمارغريت” تتفرّد وتمتد ويتنوع حضورها في صفحات الرواية .

تختار لنا عبد الرحمن ثلاثة مستويات في الروي:

ـ ما تكتبه زينب ليان أندريا، الحبيب الأخير للكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس.

ـ ما يقع بين مارغريت دوراس ويان

ـ ما ترويه الراوية الغائبة عن زينب.

الشخصيات المركزية في الرواية، شخصيات نسائية، زينب بطلة الرواية، التي تتحدث عنها الراوية من جهة، والتي تنفرد بكتابة الرسائل إلى يان أندريا من جهة أخرى، الأم، المتسلطة، الشخصية المناقضة لزينب، ساندرا.. صديقة زينب، المصورة الصحافية، ومارغريت دوراس.

أما الشخصيات المذكرة، فناهيك عن يان، والذي تستحضره الكاتبة من الماضي، وهو الرمز الوحيد الإيجابي، فإن بقية الذكور يمرون بسرعة في الرواية.. أخو زينب، سامر، والذي تجمعه بأخته علاقة باردة، سطحية، متسلطة، أستاذها في الجامعة، ومازن الحبيب العابر… كل هؤلاء لا يشكلون أهمية في حياة زينب، بل تنفرد النساء في تأثيرهن في حياتها، عبر قطبي السالب والموجب، حيث تحتل الأم، بوصفها رمزا أزليا للصراع الالكتروي، القطب السالب، أما في الجهة الموجبة، فثمة ساندرا، ومارغريت دوراس.

 

البطء كمنجز للحرب

تجري أحداث الرواية في بيروت، أثناء حرب تموز 2006،  إذ تفرّ زينب  مع عائلتها من منزلهم في بئر العبد .

تتباطأ الراوية في سرد الأحداث، بل يغلب على الرواية التأمل والتفكير أكثر مما يقع من أحداث، أتساءل فيما لو كان هذا البطء، من ميزات الرواية اللبنانية، حيث وجدت هذه التقنية، تتكرر في الروايات اللبنانية التي سبق لي وأن قرأتها، فكأن اللبناني، يستعيض عن سرعة العالم وجنونه، عبر إيقاعه الداخلي، فيجبر نفسه على التباطؤ وقد سأم الحرب.

تنتمي رواية لنا إلى زمن الحرب، ولكن الحرب الجديدة، الأخيرة، حيث اشتغلت الرواية اللبنانية مطولا على تيمة الحرب، ويكاد يكون هذا البلد، من أكثر البلدان العربية تماسّا مع الحرب، والقدرة الفائقة على الحياة في الوقت ذاته.

 

الموت،كحضور ملازم للحرب

في زمن الحرب، يصبح الموت أليفاً، أو متوقعاً، وتخف صدمته عن حدوثه في زمن السلم. وقد ارتبطت دوماً حالة الحرب وما تسببه من خراب نفسي ومادي، من موت وأذى، ارتبطت ببعض العدمية، او اللاجدوى. لهذا فإن الروايات التي تُكتب عن الحرب، أو في وقت الحرب، لا بد وأن تحمل هروباً ما من الحياة، إلى حتمية الموت، عبر الحلم، وعبر تصعيد الرغبة في البقاء والعيش. من هنا، فإننا نكاد نجزم أنه بموت مارغريت دوراس، الطبيعي، وموت ساندرا بسبب أحداث الحرب، ثمة هروب خفيّ من مواجهة خوف الفقدان، الذي تسببه الحرب.

تخلق الحرب حالة من العدمية وفقدان المعنى، وهذا ما يحصل في “أغنية لمارغريت”، إذ تتقطّع كل سبل التواصل مع العالم الجمالي، ومع الأمل، بالنسبة لزينب، حين تموت “مارغريت” في الرواية التي تكتبها، وحين تموت ساندرا، صديقتها الوحيدة، التي اتسمت دوكا بالحيوية والأحلام.. ولا يبقى أمامها سوى والدتها، التي هي على خلاف مستمر معها.

يموت الذين نحب، ويبقى الأقل قرباً روحياً لنا… هل من ألم أكبر من هذا؟ ربما هذا ما أردات زينب أيضا قوله.

بموت مارغريت دوراس، وساندرا.. ينتهي الجمال، أو القيمة الإيجابية في حياة زينب، هذا مالم تسرّ به الروائية عبد الرحمن، لكن بتتبع سياق العمل، ربما يصل القارئ إلى هذا الاستنتاج.

 

ملامح النسوية في “أغنية لمارغريت”

تتبدّى مظاهر النسوية في رواية لنا، عبر عدة استنتاجات.

ـ شخوصها المركزية الأنثوية.

ـ السرد البطيء ،المتأمل، غير المستعجل، يمرّر الوقت الثقيل، وإن كان لرواية الرجال اللبنانيين بعض ميزات هذا البطء.

ـ عبر الأفكار ذاتها، التي توحي بشخصية المرأة أكثر من الرجل، إذ تميل الكاتبة إلى طرح حالات من الهدوء النفسي الظاهري، يقابله اشتعال داخلي، عبر بعض الطهرانية التي توحي بها، والمثالية الأخلاقية، كالبحث عن التسامح، الغفران.. وثمة إنكار للذات.

ثمة مخاطرة ناعمة، رقيقة، غير صاخبة، تتقاطع مع جملتها في الصفحة 74 من الرواية :” شغفها كان وليد لذة الاستمتاع بالخطر”.

ـ انكفاء الأنثى الكبريائي، إن صحّ الوصف ، حيث انكفاء زينب يحرّضني شخصيا على محاورة الكاتبة، لاكتشاف مدى التماهي بينها وبين بطلتها، إذ تميل زينب لعدم التعبير عن نفسها، تحب التأمل أكثر مما تطرح ذاتها. ألهذا تختار”لنا عبد الرحمن ـ وزينب معاً”، الانكفاء في كتابة الرسائل ليان أندريا، والدخول في الماضي، لعدم عيش الراهن الثقيل، الغامض، المجهول؟

أتحدث عن التماهي، لأن الكاتبة ذاتها، ليست من الأشخاص الذين يبحثون عن أمكنتهم. ثمة روح غامضة لزينيب، تتقاطع مع روح لنا، الفارّة عبر الحلم الرومانسي البعيد المنال، وكأنها وجدت في حكاية الحب بين يان أندريا الشاب، ومارغريت التي دخلت تلك العلاقة في سن متأخرة، بعض التعويض الروحي عن زمن القسوة الحالية. وكأنها، وهي تطرح مخاوفها من الموت، الذي تجعله الحرب بديهية ممكنة الوقوع في اي لحظة، فهي تلجأ إلى التماهي مع يان أندريا الرجل الذي أحب بإخلاص، لتؤمن ببعض الخلاص.

” أنت تكتب لمارغريت، وأنا أكتب لك”، ترى، من قال هذه الجملة، زينب أم لنا؟

جدير بالتذكير أن لنا كانت قد كتبت بعض فصول هذه الرواية في ورشة الجائزة العالمية للرواية، في أبو ظبي، سنة  2009 ، حيث تم استقبال الكتّاب في جزيرة صير بني ياس ، لتوفير  أجواء بعيدة عن روتين حياتهم اليومية، للتفرغ للكتابة وتبادل الخبرات بين المشاركين والمشرفين على الورشة.

صدر للنا عبد الرحمن مجموعتين قصصيتين الأولى بعنوان أوهام شرقية والثانية الموتى لا يكذبون. وروايتين “تلامس”و”حدائق السراب”.

——–

عن كاتبة المقال: مها حسن روائية وصحافية سورية، مقيمة في فرنسا، تكتب في الصحافة والمواقع العربية.

صدر لها : ” اللامتناهي ـ سيرة الآخر ” رواية ـ عام 1995 في دار الحوارـ اللاذقية ، سوريا، ” لوحة الغلاف، جدران الخيبة أعلى ” رواية ـ عام 2002 ـ سوريا/ ” تراتيل العدم” رواية ـ عام 2009 ـ دار الريس ـ لبنان ـ بيروت حصلت على جائزة هيلمان/هامت التي تنظمها منظمة Human Writs Watch الأمريكية في عام 2005.

مها حسن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى