دوريس ليسينج تفتح السجون التي نختار أن نحيا بها

 

 

لا يبدو كتاب “سجون نختار أن نحيا بها ” لدوريس ليسينج ، مجرد كتاب فكري تطرح من خلاله ليسينج خلاصة رؤيتها للتاريخ والحضارة وغيرها من القضايا التي لطالما ناقشتها في العديد من كتبها؛ بل إن هذا الكتاب يعمد إلى طرح الأسئلة غير المباشرة عبر تقليب التربة الجافة للواقع الغربي الراسخ منذ عقود، والذي لا يُعتبر كذلك بالنسبة للمؤلفة، إذ لطالما انقلبت ليسينج على أفكارها باحثة عن الحقيقة المجردة، لا ثوابت في عالمها إلا للفضول الشرس والباحث بتلهف عن معرفة محجوبة. لم تركن ليسينج للفكر الشيوعي الذي انضمت إليه مدة من حياتها، وانتقدت كل الأفكار الأخرى الاشتراكية والرأسمالية وغيرها، وفي ابداعها كتبت روايات واقعية، وأخرى تدمج بين الخيال الابداعي والعلمي، مما جعل قراءها ينقسمون إلى من يفضلون روايات الواقع مثل ” المفكرة الذهبية” ويشعرون بالأسف لجنوحها نحو كتابة الخيال العلمي، فيما القسم الآخر لا يفضل كتابتها الواقعية ويرى قمة ابداعها فيما أنجزته بكتبها الخيالية. كتبتليسنج سلسلة روايات تنتمي للخيال العلمي، بدأتها برواية ” شيكاستا” قدمت رؤيتها القلقة لمصير كوكب الأرض  من خلال  قصة كوكب موازٍ، أو شبيه بالأرض، يتطور من الازدهار إلى التدمير الذاتي تحت رعاية ثلاث إمبراطوريات، وفي هذه السلسلة تطرح كل مخاوفها وتساؤلاتها عبر دمج الخيال بالواقع  فتتناول علم الوراثة والحرب النووية وما بعد الاستعمار، والعنصرية، ومخططات استعمار الفضاء وهشاشة الكوكب أمام النزاعات والجشع الذي سيؤدي للفناء لا محالة.

الفرد والمجتمع

“سجون نختار أن نحيا بها  ” لدوريس ليسينج” يضم بين دفتيه خمس محاضرات تتحدث فيه صاحبة “العشب يغني” عن علاقة الفرد بالمجتمع الحديث، تبدو أفكارها واضحة ومحددة في التحذير من عدم الاستسلام للعقل الجمعي الذي يُهيمن على الفرد، فتطالب ليسينج الانسان بأن يتحلى بالحياد والهدوء والنظرة الثاقبة في رؤية الحياة عوضا عن التقليد الأعمى.

ويُمكن اعتبار هذا الكتاب من ضمن الكتب الموجهة لأولئك البشر الذي لديهم رغبة في عدم المضي وراء ما ينتهجه الآخرون، بل خلف رؤيتهم الأصلية الخاصة غير المقلدة. تقول :” انظر كيف يتبنى الجميع موقفا ما إزاء كاتب أو كتاب معين. الكل يقول الأشياء عينها تقريظا كانت أو تثريبا إلى أن يحدث تبدل في الرأي والذي قد يكون جزءا من تحول اجتماعي أوسع.”

محاضرتها “مختبرات التغيير الاجتماعي” لا تبدو غريبة أبدا عن عالم اليوم، يحق لنا السؤال : إلى أي مدى ازدادت أحوال العالم سوءً عن زمن الثمنينات الذي كتبت فيه ليسينج كلماتها؟ العالم الآن من حولنا يزداد غرقا، وتلوثا، واضطرابا ووباء، لكن في نفس الوقت وكما ترى الكاتبة النوبلية أنه في كل أوان لابد من وجود قوى متصارعة يسعى أحدها للهيمنة على الآخر, وإرساء قوانينه وقواعده لحكم العالم، وفي كل أوان أيضا  ثمة وعي ما يتشكل بهدوء قد يُساهم بشكل من الأشكال في تكوين رؤى جديدة تُنقذ العالم من الانصهار في بوتقة التفكير الجمعي العبثي.

غسيل الأدمغة

في المحاضرة الأولى “عندما ينظرون إلينا من المستقبل” تتوقف ليسينج عند أحداث واقعية تدل على الروح البدائية ذات النزعة الوحشية  عند  البشر،  مثل إدانه مزارع لثورٍ وإعدامه لأنه قاتل ” الثور أزهق روحا”، أو واقعة حدثت في نهاية الحرب العالمية الثانية حين حُكم على شجرة معينة بالإعدام بسبب تعاونها مع العدو. تتساءل ليسينج ” هذا هو ما أريد التحدث عنه في هذه المحاضرات الخمس إلى أي مدى يُهيمن علينا ماضينا الهمجي كأفراد وجماعات؟ أو تقول :” كيف يا ترى سنبدو للقادمين من بعيد؟”

إن معظم التساؤلات المطروحة في هذا الكتاب، رغم الفارق الزمني لا تبدو مفصولة عن الزمن الآني، سواء في السلوك المجتمعي على مستوى علاقته بالعالم ، ووعود الأمان والحرية التي لم تتحقق مع طفرة الحداثة، أو بالنسبة لكوكب الأرض كمأوى للبشر يتعرض للتآكل. وإذ كانت ليسينج تتوقف في محاضراتها أمام النزعة البدائية التي استدعتها الحروب الكارثية التي حصلت في زمنها، والتحولات السياسية الكبرى سقوط المعسكر الاشتراكي وهيمنة الرأسمالية، فإن الانسان المعاصر الذي تضاعفت الحروب من حوله وتناسلت الأمراض والأوبئة، ونخر التلوث غلاف الأرض، يعيش متجردا من الطمأنينة بعد زعزعة الجداريات التي ارتكن إليها طويلا.

لعل المفارقة في التماثل الذي تحكي عنه ليسينج وصراعات الآن أنها تتكرر بشكل يؤكد أنها لم تنته من قبل، فحين تحكي في المحاضرة الثانية ” أنتم ملعونون ونحن ناجحون” عن الصراع العرقي للبيض والسود، وعن هيمنة التعصب الديني الذي عاد بقوة إلى ساحة أيامنا أيضا يبدو حينها قارئ اليوم في حاجة إلى هذه الكلمات:

” إذا حالفكم الحظ، سوف تخرجون من التجربة أوسع أفقا من خلال خبراتكم لما أنتم قادرون عليه وأنتم في طريق التعصب والتشدد. ستفهمون تمام الفهم كيف بمكن للعقلاء من الناس في أوقات الجنون العام أن يقتلوا ويدمروا ويكذبوا ويقسموا أن الأسود أبيض.”

لعله من المهم عند قراءة محاضرات ليسينج، محاولة وضع المعاناة الإنسانية في مجملها ضمن سياق زمني متصل بالأمس وغير مفصول عن سلسلة التاريخ الممتد منذ القدم، لأن أي محاولة للفصل تعني الدوران في حلقة مفرغة مع نزع الحدث من سياقه. انطلاقا من هذا يبدو الحديث في المحاضرة الثالثة ” الانصراف إلى مشاهدة المسلسل” عن أشخاص اعترافوا بجرائم لم يرتكبوها خاضعا لتقنية  غسيل الدماغ، التي تبدو أيضا متبعة حتى الآن وهي :التسبب بتوتر  يعقبه استرخاء بما يترافق مع تنمر وسادية، يتبعها ود زائف، ثم ترديد فكرة معينة مرارا وتكرارا، أيضا اختزال أفكار مركبة إلى مجموعة بسيطة من الكلمات. إن ما يمكن تطبيقه من هذه الوسائل على المستويات السياسية والدينية والاجتماعية، يطبق أيضا في الاقتصاد وفي إعلانات  التلفزيون التي تتحكم بوعي المشاهد. تقول : “عندما أنظر إلى الوراء يدهشني شيء لم ألتفت إليه حينذاك وهو توافر أمثلة كثيرة حديثة لحالات غسل الدماغ.”

تنتقد ليسينج بشدة العقل الجمعي، ساخرة من وصف المجتمعات الغربية “بالعالم الحر”، بينما في واقع الأمر أن الفرد الغربي الذي يتوهم أنه حر يخضع دائما  لضغط مادي من الحكومات، وينتمي أيضا لجماعات، الأسرة العمل، السياسة، الدين بل ” لا يشعر بالسعادة في العزلة إلا قلة ضئيلة من البشر، ويظنهم جيرانهم غريبي الأطوار أو أنانيين.”

لا تحارب الكاتبة فكرة المجتمع أو الانتماء للجماعة، بل تُنبه الفرد لأهمية ادراك القانون الجمعي الذي يحكم هذا الانتماء لأي جماعة كانت، فمن أشق ” الأمور في الدنيا أن تُبقي على رأي فردي مخالف وأنت عضو في جماعة.”

” سجون نختار أن نحيا بها” الذي صدر عن المركز القومي للترجمة، وعن دار العين بترجمة سلسلة ودقيقة للمترجمة سهير صبري، من ضمن أعمال ليسينج التي بلغت ستين مؤلفا خلال رحلتها الابداعية المديدة التي انتهت بوفاتها عام 2013.

  لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى