الحبيب السالمي ولوعة ” الاشتياق إلى الجارة”
” الاشتياق إلى الجارة”، هو عنوان أحدث روايات الكاتب التونسي الحبيب السالمي ( دار الآداب2020) وفي هذا العمل أيضا لا يتنازل صاحب “عواطف وزوارها” عن خصوصية كتابته التي تقدم للقارئ العنصر الأهم عند القراءة وهو المتعة المنبثقة من تلقائية السرد، ونسج الحكايا وفق تصور البطل عن العالم. إنه التصور الذي يراهن على قول أكثر المواقف الإنسانية التباسا ورهافة، وفق أسلوب سلس يمزج بين حس الفكاهة والدعابة، مع عمق أدبي يُعلي من قيمة البداهة الإنسانية عن أي شيء آخر. إن طفولة الإحساس الباطني للأبطال هو ما يميز كتابة الحبيب السالمي في هذه الرواية كما في معظم أعماله الروائية، إذ يختار شخصيات أبطاله ويكتب عنهم كما لو أنه يعمل بسلاسة على تقشير الطبقات الخارجية النفسية التي صنعها المجتمع، وجعلت هؤلاء الشخوص يمضون في حيواتهم ضمن مسارات مرسومة ومعروفة مسبقا.
يتخلى أبطال السالمي طواعية عن لعب هذا الدور، يحاولون التجرد بخفة من المبررات الحضارية التي تدفع لتجاهل طزاجة اللحظة الآنية بكل عفويتها، والإصغاء لصوت الأنا، الذي قد لا يفضي دائما للتحرر الكامل، لكنه يؤدي حتما إلى حدوث وعي معين يختلف عن الزمن الذي سبقه.
في ” الاشتياق إلى الجارة” يقدم الكاتب بطله “كمال عاشور” وهو أستاذ جامعي تونسي في الستين من عمره، مهاجر منذ زمن إلى باريس ويعمل في احدى الجامعات الخاصة، متزوج من سيدة فرنسية موظفة في بنك، ولديه ابن واحد استقل في حياته بعيدا عن الأسرة. كمال هو البطل السارد في الرواية، يقف في مواجهة حكاية ظنها عابرة في البداية، مع سيدة خمسينية تدعى ” زهرة”، تحتفظ بجاذبية واضحة، تسكن معه في المبنى ذاته، وتعمل خادمة لدى المرأة التسعينية مدام ألبير جارته في الشقة المقابلة.
ولولا العنوان الكاشف ليس هناك ما ينبأ عما ستمضي إليه الأحداث من تصاعد سلس ومشوق في تشكيل حكاية زاخمة في التفاصيل بين “سي كمال” و “زهرة”. هكذا يجد الأستاذ الجامعي نفسه متورطا في مشاعر عاطفية نحو الخادمة التي لا يجمعه بها شيء سوى أنها من بلده. تبدأ الرواية بفقرة موحية وموجزة لعوالم النص يقول : ” الآن صرت أراها عدة مرات في اليوم. اسمها زهرة، لكن أغلب سكان العمارة التي نقيم فيها معا ينادونها مدام منصور. وآخرون يسمونها الخادمة، أو التونسية…فرحت زهرة حين عرفت أن تونسيا آخر، عداها وعدا زوجها منصور وابنها كريم، هو من بين سكان العمارة.”
تتجلى البداهة الإنسانية في النص عبر مخالفة السائد ، فالبطل كمال مثلا يتبسط في علاقته مع زهرة حد التورط بحبها، ” ما بيني وبينها تجاوز لعبة الإغواء البريئة إلى ما هو أقوى منها، وسرعان ما فهمت أن الإحساس اللذيذ الذي بدأ يتسرب إلى نفسي منذ فترة هو حب”.. ويعترف أيضا بأنها تروق له جسديا فهو لا يحب النساء النحيفات، ” أحب حين أمد يدي إلى أي موضع في جسدها ألا أجد عظاما بل لحما طريا” أو أن يعبر عن نفسه بأنه يجد متعة في كنس الأرضيات، كما تجد زوجته متعة في مشاهدة مسلسلها المفضل.
الأنا والآخر
تحضر الثقافة الغربية متمثلة في زوجة البطل بريجيت، في مقابل الثقافة العربية التي يمثلها البطل بكل خلفياته الإجتماعية ومعتقداته التي لم يتجرد منها رغم حياته الطويلة في باريس، كأن يبرر لزوجته حواراته مع زهرة بأن العادات العربية تسمح بأن يتبادل المعارف الأخبار الشخصية، يقول بدعابة في مونولج داخلي وهو يصف موقفه من زوج زهرة : ” لا يجوز أن يتورط التوانسة أمام الفرنسيين بهذه الطريقة التي ستشوه سمعتهم وسمعة العرب المسلمين في فرنسا المشوهة أصلا “، أو أن يفكر مثلا وفي شكل ساخر في مكان دفنه، وهل ينبغي أن يكون في مقابر المسلمين، أو أن تُنقل جثته إلى تونس، هذا التفكير بالموت يحضر عبر مونولوج داخلي يتوقف فيه البطل عند علاقة الغربيين مع الحياة، وكيف أنهم يولون أهمية كبرى للاستمتاع بها، في مقابل غياب هذا المفهوم من الثقافة العربية. يمكن الإشارة أيضا إلى أن فكرة الاغتراب تحضر على مدار النص من باب خلفي، وهذا يواجهه البطل في عدة مواقف، كأن تطلب منه مدام ألبير التدخل للصلح بين زهرة وزوجها قائلة : ” إنه تونسي مثلك”، أو أن تقول له زوجته أن التقاليد الفرنسية التي تربت عليها لا تسمح لها بأن تنادي زهرة باسمها المجرد من دون كلمة ” مدام”، تقول : ” أذكرك بأننا لسنا في تونس أو المغرب وإنما في فرنسا.”
استطاع صاحب “روائح ماري كلير”، من خلال تفاصيله الدقيقة في السرد والوصف أن يحمل القارئ إلى معالم المكان الذي يسكنه البطل، وصف العمارة، الشقة، المدخل، حركة الشخوص في المكان. إنها مشاهد تكاد تكون مرئية في استنادها إلى الحواس كلها، الصوت الرائحة، اللمس، الرؤية، الحدس الباطني، وهذا يتجلى بوضوح في الحوارات التي تدور بين كمال وزوجته بريجيت، وبين كمال وزهرة إذ على ايجازها تبدو الحوارات كاشفة لمدى حساسية شخصية الزوجة، وإدراكها لما يدور حولها، أيضا لمدى لعبة الغواية التي تمارسها زهرة بين كر وفر.
لكن العلاقة مع زهرة تتصاعد رويدا رويدا، من الحياد والعادية، إلى الاهتمام، لنقرأ : ” صرنا نخوض خلال لقاءاتنا التي لا تدوم سوى بضع دقائق في مسائل مختلفة، العمل والبطالة، وغلاء المعيشة، والأمراض، والضمان الصحي، والنقل في باريس، وخاصة أخبار تونس ومباهج عطلة الصيف، التي تقضيها هناك مع أهلها”
يواجه البطل إحساسه بأنه مقصي عن ثقافته الأصلية وعن وطنه، وهو يعبر من خلال علاقته بزهرة عن حنينه للمرأة العربية، واستمتاعه بالحديث باللهجة التونسية، بل وملاحظته بأن زهرة أيضا تستمتع بالحديث معه. لكن العلاقة تمضي في مسار أعمق حين تبدأ زهرة بالعمل في تنظيف شقة ” سي كمال”، كل يوم ثلاثاء. ومن خلال هذا اللقاء الأسبوعي يحدث تواطؤ أكثر عمقا حين تطلب زهرة من كمال أن يعلمها القراءة، بل إنها في تصاعد آخر تستعير منه رواية ” عرس الزين”، مع سؤالها الملغز : ” لماذا يحب الزين عروسه..بل لماذا يحب الرجل المرأة؟ مشهد تعلم زهرة للقراءة، يكون له حضور مؤثر في المشهد الأخير، حيث ثمرة تلك العلاقة القصيرة مع كمال تتجلى في قدرة زهرة على كتابة الرسائل، بعد أن كانت لا تعرف القراءة ولا الكتابة.
في كتابته يتناول الحبيب السالمي القضايا الإنسانية المصيرية والمؤثرة، بلا صخب ولا شعارات ولا عبارات مباشرة، بل ضمن الحكاية الرئيسية البسيطة ظاهريا، التي يبدو كما لو أنها وارد حدوثها في أي يوم ومع أي كان. لكن السالمي يتمكن من تحويلها إلى عالم روائي متماسك، تقوم حوله تفاصيل حياة كاملة. لعل هذا ما يمكن فعله من قِبل كاتب يمتلك أدواته السردية، المستندة إلى موهبة تنساب بلا افتعال، مع حنكة في اختيار الدلالات والثيمات التي تدور حول عالم الحكاية، في ما ينبغي قوله، وما ينبغي العبور عنه، وتجاهله، ليقدم لقارئه نصا سرديا متماسكا وخاليا من الترهل.
لنا عبد الرحمن