“ما حكاه الصوفي” رواية الأسطورة والحقيقة
تنضم رواية “ما حكاه الصوفي”، إلى قائمة الروايات الهندية المعاصرة المترجمة إلى اللغة العربية، لتقف جنبا إلى جنب مع روايات أروندتي روي التي نالت جائزة البوكر عن رواية “رب الأشياء الصغيرة”، وأنيتا ديساي التي رشحت للبوكر ثلاث مرات، وابنتها كيران ديساي التي نالت البوكر عن روايتها “ميراث الخسارة”، ورواية “مثل ترنيمة قناع هندي لحياة دستويفسكى” للكاتب الهندى بيرومبادافام سرى دهاران، وغيرها قائمة طويلة من الروايات، التي مهما طالت سيظل ثمة قصور في معرفتنا لكتاب شبه القارة الهندية، ليس بسبب اتساعها الجغرافي وحسب، بل أيضا بسبب تعدد اللغات التي يكتب بها الكتاب، وتحتاج هذه اللغات المحلية أن يتم نقلها إلى اللغة الإنجليزية، ومنها إلى العربية.
تمتلك الرواية الهندية خلفية ثقافية واجتماعية شديدة التنوع والثراء والاختلاف أيضا عن ما يقدمه أي نوع آخر من الروايات العالمية، وهذا يرجع إلى المنابع الفكرية التي تنحدر منها الثقافة الهندية في تلاقح معتقدات دينية تجمع بين الإله والإنسان والطبيعة، فمن الممكن رؤية تأثير الديانة الهندوسية والبوذية، على قناعات الأبطال وسلوكهم، إلى جانب تأثير الديانتين الإسلامية والمسيحية، حيث ينعكس تأثيرهما بشكل واضح حين يحصل تماس مباشر مع قناعات أخرى، كما سنرى في الرواية.
يستطيع قارى رواية “ما حكاه الصوفي” (دار مسعى – لوتس عُمان ، الكويت ) أن يشم رائحة البخور وزيت جوز الهند تعبق مع خطوات السائرين نحو مقام “الولية”، بل وأن يرى “السيدهارت” الذين يعيشون لقرون وهم يعبرون البحار ويتنقلون من مكان لآخر، وأن يسمع الابتهال للأنهار المقدسة والبحار السبعة، وأن يحس بالأحداث التي تسير بتناغم مع حركة الكواكب، وأن لا يندهش من حضور الآلهة بهجافاتي مثل شبح غير مرئي يتحرك في البيت بدون توقف.
يمضي البطل السارد، وهو شاب هندوسي لطالما سافر بحثا عن أساطير وعادات وتقاليد الناس في الهند، نحو مقام الولية، وهناك يلتقي مع رجلٍ عجوزٍ،حكيم مؤرخ للكون يخمن أنه يمتلك معرفة مدهشة ومتفردة لذلك يجلس معه مستسلما لما سيحكيه. تبدأ الرواية بهذه الفقرة الكاشفة : ” سئمنا نحن أبناء المنطقة الحقائق البحتة والعقلانية، لذلك حين سمعنا بظهور مقام على شاطئنا ابتهجنا جدا. إن كان ذلك خرافة فليكن ، تعلمنا منذ سنوات طويلة أن نؤمن بالحقائق القاسية فقط، فما الذي جنيناه؟ ”
ينطلق السرد بشكل دائري ليبدأ مع الحكيم الصوفي، وينتهي معه وهو يحكي للبطل قصة مقام الولية ، حين أنجبت جدة قبيلة “ميليبو اللارا” سلالة من الرجال، وطفلة واحدة هي آمالو، التي بدورها أنجبت أيضا الذكور، وصارت القبيلة مهددة بالفناء إن لم تُرزق بطفلة ليستمر النسل، ثم تحصل المعجزة وتأتي ولادة الطفلة “كارتي” برعم أنثوي جديد ستطفو على التاريخ المجيد لقبيلة ميليبو اللارا. لكن في نفس يوم الولادة كان على شانكو مينون، سيد القبيلة وخال الطفلة، أن يتنبأ بطالعها، وكانت النبؤة واضحة، لكن لا حائل دون حدوثها. ويظل السؤال الذي يطرحه شانكو مينون : ” هل سوف تُعاد كتابة أقدارنا؟”
الطفلة ترضع من أمها بنهم، وتكبر مع كل دقيقة تمر، والد الطفلة رحل بلا عودة منذ أن كانت آمالو حاملا، قال : ” أنا ذاهب إلى الحج، لا تسألي عني.” يهاجم القرية وباء يشبه الجدري،وفي أسابيع قليلة يكبر شانكو مينون عمدة القبيلة عشرات السنين، وكان كلما عاد من مراسم حرق جثة وجد في ردهة البيت جثة أخرى.
أما كارتي فإنها تكبر وتصبح رمزا للشباب والجمال، لها جسد نوراني، وشجاعة تجعلها قادرة على التعامل مع مرض الجدري ، مما يجعل الجميع يتعامل معها على أنها محمية من الآلهة بهجافاتي، حتى أنها حين يأتي جباة الضرائب المكلفين بجمع المال تجلس في غرفة الآلهة، يهاب الجباة رؤيتها ويمضون مبتعدين .. تتداخل العلاقة في الرواية بين السماوي والدنيوي، بين الإنسان والإله، لم يكن سهلا على كارتي هذا التمجيد الذي تُعامل به ، كانت تراه عقابا فقد آلمتها العزلة التي وضعوها فيها لأنها تحب الناس والطبيعة تصف كارتي نفسها بأن في قلبها حملا ثقيلا مثل الرصاص، تقول :” لابد أن يكون هذا هو الشعور الأبدي ذاته الذي تشعر به للآلهة التي تُعبد”
تحضر أيضا بقوة العلاقة مع الكون والطبيعة،في طريقة الوصف كأن يقول :” تفاعلت القوى الكونية المسيطرة جميعها فأمطرت على بيت ميليبواللارا شظايا مذنب متفجر. حملت نسائم الربيع المتراقصة الملايين من فيروسات الجدري. أليست المعجزة من عمل الشيطان والإله نفسه، “ثم ينتقل الراوي بسلاسة وخفة في السرد من حدث إلى آخر، كأن يُنهي فصل المرض الذي هاجم العائلة في الفصل التالي بجملة افتتاحية تقول : ” انتهت الأوقات السيئة بشكل منظم، كما لو أن قوانين محبوكة جيدا تحكمها..اختفى الجدري من الحقول بعد أن قُضى عليه”
يكشف الكاتب عبر تفاصيل شتى العلاقة مع الاستعمار الإنكليزي وأثره على المجتمع الهندي بكل فئاته، كما نرى مثلا في موقف شانكو مينون حين يقرر التخلي عن منصبه لأنه يشعر بعدم القدرة على تحقيق العدالة،كما يتطرق إلى الحواجز الطبقية للفئات الإجتماعية في الهند.
تتخذ الأحداث منعطفا آخر حين تقع كارتي في حب ماموتي الشاب المسلم الذي يأتي لشراء محاصيل قبيلة ميليبو اللارا، تمضي معه إلى بلدته تاركة خلفها كل تاريخها كفتاة مصطفاة من الآلهة بهجافاتي. تمضي كارتي في عالمها الجديد، غارقة بالحب والخوف والغربة في مناظرة تاريخية جميلة حد الألم. وتأخذ كارتي اسما جديدا بعد أن اعتنقت الاسلام هو “سيتارا”
لكن الصراع بين المسلمين المتعصبين والهندوس لن يترك العاشقين في حالهما حين يشيد ماموتي معبدا في أرضه إرضاء لزوجته كارتي، مما أثار غضب الإمام المسلم أفارموسليار. لنقرأ : ” حاولنا أن ننسى سبب الخلاف فقام الهندوس بزيارة بيوت المسلمين التي اعتادوا أن يأكلوا فيها حتى الشبع من وجبة البرياني التي تقدم لهم، وفي المقابل زار المسلمون بيوت الهندوس الذين اعتادوا التهام حلوى الباياسام معهم. إلا أن الغصة بقيت في قلوبنا، فلا يمكن استرجاع الدفء الذي انفلت مرة واحدة عندما تمزقت العلاقات وتنافرت. كيف يمكن للأصدقاء أن يصبحوا غرباء.”
تُجسد فكرة “الولية” دلالة رمزية لكل المعتقدات الأزلية الراسخة في المجتمع الهندي،مع ما يكشف عن الخلافات الطائفية التي تتسبب في تشظي المجتمع وفرقته. ثم هناك التفاصيل الحياتية التي تدل على قناعات الأبطال، محرقة الجثث في ساحة البيت، قوى غامضة من العالم السماوي، الافتتان المثلي المغوي بالخطيئة بين ماموني وأمير، ثم الايمان والشغف بوجود الولية : ” لقد كنا ضائعين في البحر وصلينا استعدادا للموت، فلم يكن ممكنا أن ينقذنا شيئ، ثم جاءت هذه الولية.” تنتهي الرواية مع جملة للحكيم الصوفي تقول : “الإنسان ما زال يتعلم الخير، ودائما لديه الرغبة في أن يكون خيرا، هذه الرغبة تظهر من وقت لآخر على شكل ولية، وحين ننسى تظهر لنا ولية أخرى” .
الجدير بالذكر أن رواية “ما حكاه الصوفي” للكاتب الهندي: كي بي رامانوني وهو أستاذ جامعي في جامعة مالايالام، وقد أصدر أربع روايات حازت جميعها على جوائز. وقام بترجمة الرواية عن المالايالامية : ان جوبالاكريشناو آر إي آشر، وترجمتها عن الإنجليزية الكاتبة والمترجمة أزهار أحمد وهي كاتبة عمانية ، تكتب القصة القصيرة والرواية ولها مساهمات عديدة في أدب الطفل والنشئة ، وقام بالمراجعة: ويلابوراتو عبدالكبير.
لنا عبد الرحمن