دفاتر فارهو تحترق في نار الحرب
عالم جارح، مؤلم، غامض، بالغ البؤس، هو عالم رواية ” دفاتر فارهو “( دار المتوسط – ميلانو ) تمضي الكاتبة العمانية ليلى عبدالله في روايتها إلى القاع المظلم إلى واقع الحروب واللاجئين الإفريقيين في المخيمات، تلملم شظايا حكاياتهم المتناثرة، وبلا خوف تنصت إلى جحيم واقع فارهو، الصبي الذي ينحدر من أب صومالي مسلم، وأم أثيوبية مسيحية.
يسرد البطل فارح أو فارهو حكايته على كارل الذي يظل حضوره طيفيا على مدار النص، ويعرف القارئ أنه صحفي غربي يعمل مع مجموعة من النشطاء من منظمة حقوق الإنسان، ويود تقديم فيلم تسجيلي عن حياة فارهو ، يمثل كارل الوجه الآخر للواقع، فهو حلقة الوصل المهمة بين الصمت والكلام، بين زوال الحكاية وانكشافها وخروجها للعلن؛ كارل الذي سينقل للعالم عبر الشاشة ما يحصل للبشر في قارة مجهولة، قارة سوداء موشومة بالوجع.
يتذكر فارهو من خلال الكتابة والبوح والرغبة في الكشف عن جراحه أو التنبيه لأسباب حدوثها، أنه في السابعة من عمره أو أصغر بقليل وجد نفسه في بلد غريب، لكنه يسرد ما حدث بعد أن تجاوز الأربعين ببضعة أعوام. ذكريات مخيم “بوصاصو”في مدينة “بيداو” بجنوب الصومال، والمهربين والحديث عن رحلة بحرية مجهولة تبدأ من اليمن وتنتهي في الخليج العربي، مقابل 300 دولار للشخص الواحد؛ ذاكرة صور وأحداث تمتزج بالحديث عن القراصنة ، عن الجوع والفقر والعراء، عن التشرد والضياع، والرغبة في الفرار من كل هذا، الرغبة في التعلم، الخروج إلى السطح عبر الكتابة. يقول : أنت أكثر من يعلم يا كارل أنني كائن توثيقي فقد سجلت في سنوات حبسي كل ما ممرت به. كانت ذاكرتي عدتي وعتادي..كنت خائفا أن تصادر ذاكرتي، أعني أن تصادر الدفاتر التي دونت فيها كل ما مررت به.”
يصل فارهو برفقة أمه وأخته عائشة إلى احدى الدول الخليجية، ويكون في استقبالهم الخال مانغستو، شقيق الأم الذي هاجر منذ عدة أعوام. ومنذ تلك اللحظة تنفتح حياة الأسرة الصغيرة على واقع مأساوي آخر، كان ينبغي عليهم طمس هويتهم تماما، من أجل الحصول على الحد الأدنى من الحياة. تقدم الكاتبة أيضا وقائع حياتيه لمجموعات من المهاجرين أتوا من مختلف أصقاع الأرض، هنود، باكستان، صومالين، من جزر القمر، وغيرهم، تصف يومياتهم وأساليب معيشتهم التي انتقلت معهم من بلدانهم إلى البلد الغريب.
يقوم بالسرد فارهو، وينتقل في قفزات زمنية بين الماضي والحاضر، وقد ميزت الكاتبة النقلات السردية باختلاف الخطوط بين مائل وثقيل وعادي، لتستخدم الخط المائل في بداية الرواية ومع كل التفاصيل المتعلقة بالماضي البعيد حين يحكي فارهو عن ذكرياته الباطنية، والخط الأسود الثقيل مع سرده عن زمن انتمائه لاحدى العصابات، ثم الخط العادي لوصف مجريات الحياة العادية وهو يحكي عن مدرسته ورفاقه وأسرته. ترصد الكاتبة بدقة النمو النفسي والإجتماعي لفارهو، لتكشف من خلال بطلها عن كيفية تشكيل شخصية الإنسان وحصول التحولات الناتجة عن مواقف الحياة ومن يلتقي بهم من أشخاص، وكيف يؤثرون في كيانه ككل، وفي النقطة الحاسمة التي ستحكم مصيره، وتعكس رؤيته للحياة، كأن يقول :” لا يقوض حياة المرء سوى تلك الصلات الاجتماعية الوثيقة التي يشعر بها اتجاه كل من يعرفهم”. ” بمرور السنوات أدركت أن الناس هنا لا يموتون مثلنا، لا يموتون مثلنا من الجوع، ولا من الحروب ولا حتى من الأمراض القاتلة، إنما يموتون من السيارات المسرعة، ومن تناول الأطعمة حتى التخمة، من البلادة والوحدة والثراء، ليت موتنا يشبه موتهم.”
تطعم الكاتبة السرد بمفردات محلية خاصة بالبيئة الخليجية، تحديدا في الحوارات، وفي وسط كل الحزن والألم المبثوث على مدار الأحداث، تقدم الكاتبة مواقف مضحكة يستدعيها فارهو من الماضي، من أيام المدرسة مع الأستاذ عطية، وزميله الباكستاني عبد المقصود. الضحك هنا يبدو وسيلة لمقاومة نشح الخراب الذي ينخر أرواح الأبطال، ويسمم حياتهم.
تبدو الجملة التي يقولها فارهو :” أحيانا علينا أن نمنح الحياة بسلب حياة أخرى”، جملة محورية لادراك أبعاد شخصيته؛ حيث يبدو الوعي الداخلي بالحدث والقدرة على استقرائه أعلى في بعض المواقف من الشخصية نفسها، فارهو يتسم بالوعي الفطري، لكن في بعض اللقطات يبدو وعيه تحليلي أكثر مما هو بديهي وتلقائي. هذا يتضح في تساؤلاته الفلسفية عن الحياة وغايتها والجدوى منها، عن الموت ومنطقه، عن الإنتماء والهوية، وعن مفهوم الخير والشر في دائرتهما الكبرى، وليس في المفهوم التقليدي وحسب. يجد فارهو نفسه فردا من عصابة أفريقية لسرقة الأعضاء، تحديدا يتم استخدامه كطعم لجلب الضحايا، يتورط في هذا الجرم بعد أن خيل له أنه سينقذ حياة والدته بالحصول على كلية شخص مجهول، وهو بذلك يكون ولدا بارا.
منطق الحرب
يمكن القول أن عالم أبطال هذا النص محكوم بمنطق الحرب بكل ما فيها من بشاعات واغراق في القسوة، وبكل ما تخلقه من مأساوية تحيل الحياة إلى مجموعة من الخسائر التي لا يمكن تجاوزها. هذا يمكن ملاحظته مع شخصية الأم التي نهشت الحياة ما يكفي من جسدها، والأخت عائشة التي تسعى إلى تحسين حياتها لكنها تفشل في كل مرة، لأن الواقع أكثر ثقلا ومرارة. هناك أيضا التخلي الذي نجده في موقف الخال منغستو من أولاد أخته، واستغلالهم أبشع استغلال، في كل مراحل حياتهم. تقوض الرواية فكرة العلاقات الرحيمة بين الأقارب، تقترب منها وتميط اللثام عن عذابات يقوم بها المقربون لا الغرباء.
تدين الرواية أيضا الواقع الرأسمالي الجشع، القادر على ابتلاع خيرات الأراضي والبحار، وتجريد البشر من أمانهم وسكون حياتهم، يصف فارهو حياة والده حسنو قائلا : ” ساءت ظروف البحر والصيد كثيرا بسبب شركات الصيد الأجنبية التي تجرف شباكهم وتسلب ما فيها، وتطارد قواربهم الصغيرة. انتهكت الشركات الأجنبية حرمة المياه الإقليمية لبلدي، أساطيل فرضت سيطرتها بذريعة حراستها المياه من قراصنة البحر. كان أبي ورفاقه الصيادون حانقين على الوضع السيء الذي سلب رزقهم. ولم تجد اعتراضاتهم شيئا.”
الإدانة للواقع تأتي أيضا من خلال تقديم صور مختلفة من عالمين بالغي التناقض، واقع الحرب واللجوء والفقر المدقع والجهل، وعالم الثراء والترف والبذخ في كل أشكاله، وبينهما، تمضي تفاصيل أخرى تتعلق بمفهوم الهوية والسيطرة، لون البشرة الأسود ودلالاته التي تحكم مصائر أصحابه، وكأن التاريخ ” لم يغفر صبغة لوننا الأسود، يظل اللون الأسود لصيق بنا كدمامل وجه لا يمكن إخفاؤها.”
تستخدم الكاتبة أسلوبا سلسا وممتعا في السرد، لولا بعض التفاصيل عن الشخصيات التي بدت اضافية أحيانا، وتستعين في السرد بكلمات ترتبط ببيئة الأشخاص وبلدانهم، وفي وسط كل البؤس والقسوة الحياتية المفرطة تستدعي حس دعابة وسخرية تمنح النص دفقات من الحيوية كما نراها مع شخصية الأستاذ المصري عطية مدرس اللغة العربية، إنها مشاهد ولحظات ساخرة تبعث على الضحك، بحيث تبدو الضحكات المنتزعة وسط كم من العبث والقهر،وسيلة أخرى للمقاومة والفرار من قتامة الواقع القاتل.
يمكن اعتبار هذه الرواية وثيقة انسانية لإدانة الحروب، والعنف، والدمار النفسي الذي يستشري ليدمر الآخرين مثل عدوى تنتشر كالنار لتحرق كل سلام ممكن.. الرواية تتسلل بخفة لتكشف عن مواطن الضعف والقوة في النفس الإنسانية، والأهم أنها تكشف عالم أطفال المجاعات والحروب، تقدم الحياة من خلال رؤيتهم وتمنحهم من خلال بطلها فارهو مساحة ممكنة كي يروا حكاياتهم،ربما ايمانا من الكاتبة بقدرة الكتابة على مداواة الأرواح المهمشة .
د. لنا عبد الرحمن