هديل هويدي تكشف “سر الصبية”

 

 

تتخذ الكاتبة هديل هويدي من قضية اللاجئين السوريين في مصر موضوعا لروايتها الأولى ” سر الصبية” ( دار العين، القاهرة ) لذا تنتمي الرواية إلى نوع الرواية الواقعية التي تهدف من خلال وجود حدث درامي تقديم أبطالها ومناقشة قضيتهم ومعاناتهم الإجتماعية، حيث كل فرد له حكاية ومصير خاص يتشابك مع مصائر الآخرين ويؤثر على حيواتهم.

تتبع الكاتبة مصير عائلة سورية من أدلب تتهجر بسبب الحرب الدائرة في سوريا، وتنتقل إلى مصر فرارا من موت محقق ، فالشتات وما تفعله الحروب بحياة البشر الآمنين هو المراد رصده في الرواية ، العائلة الآمنة التي تتألف من أب وأم  وابنتين هما محور السرد، وابن شاب ( ظافر) يعيش معاناته مع الحرب أيضا. في البداية تفقد الأسرة الأب (شاهين)، ويغادر الابن إلى منطقة أكثر أمانا، بينما الأم والبنتين ( عصماء وجيداء) تسافران إلى مصر، تحديدا إلى مدينة “السادس من أكتوبر”، وهي مدينة تقع على أطراف القاهرة، أصبحت موطنا للمهجرين من بلدانهم، وازدحمت باللاجئين العراقيين إبان الغزو العراق، وبعد عام 2011 وبداية الحرب في سوريا ظهر فيها أعداد كبيرة من المهجرين  السورين الذين سكنوا في أحياء كاملة، وافتتحوا محلات تجارية لمزاولة أعمالهم من خلالها ، في هذه المدينة تواجه العائلة مصيرها الغامض، وسط مجتمع ذكوري متسلط لن يتوانى عن استغلال النساء الثلاث، الأم وابنتيها تحت مسميات شتى، أبرزها الدين، والفقر، والغربة، والحاجة للاحتماء.

قدمت الكاتبة نموذجا لأختين مختلفتين في الأحلام والطموحات، عصماء نالت الشهادة الثانوية وتتمنى أن تلتحق بالجامعة لدراسة اللغة العربية وآدابها، فيما جيداء تحلم بالزواج وتأثيث أسرة وإنجاب الأطفل، إن مثل هذه الأحلام البسيطة والمشروعة والمتشابهة، لا تجد لها سبيلا للتحقق، فالواقع المفروض على الأسرة من غربة مكانية يضاف لها عوز مادي، وغياب العنصر الذكوري الداعم، موت الأب ثم الأخ، سيجعل الأختين الشابتين مطمعا لتجار الدين.

تتجه الأسرة عند وصولها لمدينة السادس من أكتوبر إلى الجمعية الشرعية وهو مكان كما يتضح من اسمه يسيطر عليه مجموعة من رجال الدين ويدعون مساعدة العائلات السورية المهجرة من وطنها. يدخل حياة الأم وابنتيها الشيخ طلعت ويقوم باستضافتهم في شقة فخمة، ثم لا يلبث أن يتقدم بطلبه الزواج من غيداء، وما إن يواجه طلبه بالرفض حتى يقوم بنقلهم إلى مكان بائس وشقة وضيعة ، تعاني عصماء من البكم الإرادي منذ بدايات الحرب في سوريا، وربما جاء السبب في الانتقال إلى مصر هو البحث عن طبيب نفسي يعالجها من أثر الصدمة النفسية التي أوقفتها عن الكلام.

هكذا تضعنا الكاتبة أمام عدة مآزق في حياة الأسرة.. عصماء التي انتهت أحلامها بالدراسة، وأصيبت بالبكم، الأم التي تجبر على العمل في إعداد الوجبات وبيعها كي تساهم في نفقات الأسرة، ثم غيداء التي يتم تزويجها قسرا من أسامة وهو شاب ريفي متدين يضعه الشيخ عصمت في طريقها، وتضطر للقبول به كتضحية منها لأنهم لا يملكون مكانا يذهبون إليه في بلد غريب.

قسمت الكاتبة روايتها إلى خمسة فصول تناوب السرد فيها عصماء وجيداء بضمير المتكلم، الفصل الأول ” قبل الفراق أشتاتا” يبدأ مع غيداء التي تحكي أيضا في الفصل الثاني ” أسفل مقصلة”، ثم ينتقل السرد  إلى عصماء مع  الفصل الثالث ” ميراث العائلة” ويستمر حنى النهاية مع الفصل الرابع ” شال حرير” والأخير ” اليد البيضاء”، تحكي  الأختان ما حصل معهما، كل  من وجهة نظرها، مع كشف بعض التفاصيل الخفية خاصة في سرد عصماء الذي بدا أكثر انتظاما وعمقا من الجزء المتعلق بغيداء.والجدير بالملاحظة أن الكاتبة افتتحت كل فصل ببيت شعر من معلقة عمرو بن كلثوم، حيث تصدر  الفصل الأول البيت القائل :

وكأسٍ قد شربت ببعلبك

وأخرى في دمشق وقاصرينا

ولعل اختيار هذا البيت تحديدا كعتبة للرواية، لارتباطه بالمعنى القدري  الدال على ما سيحدث من تهجير للعائلة،بأن يشرب المرء كأسه في بلد ما، ويشرب الثاني في بلد آخر، فلا أحد يمكنه التنبؤ بالأحداث في زمن الحروب.

 

العلاج بالفن

تقدم الكاتبة في روايتها عدة نماذج ذكورية تبدو معظمها مشوهة ( الشيخ طلعت، أسامة)  أو مضطربة بسبب الحرب والإحساس بالعجز ( باسل، ظافر، أيهم). يختار باسل الهرب إلى أوروبا عبر البحر، دفع ثلاثة آلاف دولار للمهرب الذي سينقله إلى سواحل أيطاليا، بينما يموت ظافر مع سؤال : ” هل فعل ظافر بنفسه ما فعله أسامة، انضم للجيش الحر، فقتل على يد الجيش النظامي؟” يدعي الشيخ طلعت مساعدة اللاجئين المنكوبين من الحرب، في حين أنه يستخدم الدين غطاء لأفعاله ، أما أسامة الذي ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين وتزوجته غيداء مكرهة فيلقى حتفه خلال أحداث رابعة، النموذج الايجابي الوحيد هو الأب شاهين، الذي يموت مع بدايات الحرب، حتى شخصية عمرو الذي من المفترض أنه فنان ويساعد عصماء في محنتها النفسية يبدو مشوشا أيضا بسبب الصراعات السياسية والإجتماعية.

وبعيدا عن تتبع الواقع الدرامي للأبطال، وسيرورة الأحداث الآسية في حياة الراويتين- وهي ليست قليلة، ربما يجدر التوقف عند الدلالات الجمالية للتفاصيل الفنية داخل العمل ، فقد اتخذت الكاتبة من التمثيل الصامت ( المايم) وسيلة للبحث عن مهرب في حياة عصماء المصابة بالخرس حيث الفن هنا هو المأوئ الذي ينقذ البطلة من مآل حياتها المعتم، عن طريق الصدفة تلتقي عصماء مع سلمى التي تدفعها إلى الاشتراك بمسرحية في الأوبرا تقوم هي وزملاؤها بإعدادها تقول : ” كان عمرو مسؤولا عني بشكل كامل، في إعدادي لمهمة التمثيل، يحضر معي معظم البروفات ويعطيني النصائح كيف أتحرك على المسرح، ساعدني في اختيار الشخصيات التي أؤديها في البروفات، شارك كلا من كريم وسلمى واشتريا لي جزءا من ملابس المايم”.

لا تغيب التفاصيل السياسية المباشرة عن الرواية، سواء في مصر أو في سوريا، تذكر الكاتبة أحداثا بعينها تركت أثرها على الواقع الإجتماعي، مثل اعتصام رابعة، وحظر التجول .. وغيرها،بالتجاور مع ذكر وقائع الحرب في ” مجرة النعمان” وحلب وأدلب، والحديث عن الفصائل المتصارعة هناك، مما أضعف الجانب التخييلي في سرد الأحداث، وعزز الانحياز للواقع.

يحسب للكاتبة اختيارها لموضوع الرواية غير المتشابه مع أعمال روائية أخرى، ويحسب لها الجهد المبذول في رسم الشخصيات التي بدت واقعية ومن لحم ودم، لكن الرواية احتاجت لتكثيف في عدة أجزاء وهذا التكثيف كان سيأتي لصالح البنية الكلية للسرد، حيث الاستطراد وبعض الحوارات بدت مكررة، إلى جانب الحاجة للضبط اللغوي، لكن يشفع لها أن هذه الأخطاء واردة الحدوث في التجارب الروائية الأولى.

لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى