البحث عن “حافة الكوثر”
تتقاطع بعض الروايات مع الحياة مباشرة، وتستمد خطابها منها بلا مواربة، أو انحيازات مستترة لاخفاء الحقيقة، تطرح أزمتها وأسئلتها المؤرقة على الورق، تلك الأسئلة التي ربما شغلت سنوات، وظلت معلقة بلا اجابات واضحة، تمنح اليقين، أو تحسم الاختيارات في وداع النفق الطويل المظلم والخروج منه إلى ضوء النهار.
لعل السؤال المطروح في رواية “حافة الكوثر” هو مدى قدرتنا فعلا على التعامل مع الاكتئاب، على مواجهة الكلب الشرس القابع في الأعماق، والذي لا يراه ويعرف بخطورته سوانا؟ وتتزامن رواية علي عطا مع احتفال العالم هذا العام بالاكتئاب، مع عنوان أطلقته منظمة الصحة العالمية يقول : “دعونا نتحدّث عن الاكتئاب”، وكشفها أن شخصا ضمن كل خمسة أشخاص في الشرق الأوسط يعاني من الاكتئاب والقلق بسبب ما تشهده هذه البلاد بشكل متزايد من أزمات إنسانية ونزاعات وحالات نزوح،ما يعني ارتفاع أعداد المصابين بهذا المرض في المنطقة العربية.
هكذا بين النفسي والاجتماعي والجسدي، واختلاط السيري بالروائي تتفاعل الأزمات في “حافة الكوثر”، رواية الشاعر علي عطا الأولى، والصادرة هذا العام عن الدار المصرية اللبنانية. كل شيء يقف على الحافة ويظل يراوح مكانه، صراعات الطبقة الوسطى للبقاء؛ هذا على اعتبار أنها موجودة،احتدام الاضطرابات السياسية عقب ثورة يناير 2011، ولعل الأهم ما يتصدر في الواجهة هو “الاكتئاب” كمرض نفسي وعضوي، يضني صاحبه ويمرر حياته باليأس والضيق، وفقدان الأمل، والاحساس بالخيبة.
الاجتماعي والنفسي
لعل الروايات العربية التي تناولت الاكتئاب كمرض وليس كظاهرة حياتية يشكو منها أحد الأبطال تعتبر قليلة، تخصيص عمل سردي كامل للحديث عن هذه المعاناة وما يرافقها هو ما يميز “حافة الكوثر”، رغم أن الكاتب يوارب عبر الدمج بين الاجتماعي والنفسي في سرده،لكن من اليسير تقفي معاناة البطل التي تنقل للقارئ أيضا احساسا مباشرا بالألم. لنقرأ : “الاكتئاب لئيم، لا تعرف متى يهاجمك، وعلى أي درجة من الضراوة سيكون وإلى أي مصير يمكن أن يدفعك، هذا ما فكرت به وأنا أتأمل حالي مع الاكتئاب”
يتخذ الراوي من صديقه “الطاهر يعقوب” مخاطَبا ليحكي له عن معاناته، فنتعرف أكثر على حكاية البطل، وتفاصيل أيامه في الكوثر، بل وأيام أشخاص آخرين، تشغل حكاياتهم حيزا يساعد على إكمال الصورة الحية لمعاناة مجموعة من الأشخاص الطبيعيين ظاهريا والذين يخفون في دواخلهم معاناة باطنية مستمرة.
تكشف الرواية أنه رغم ما يسببه الاكتئاب من عزلة، إلا أنه في الوقت عينه يحقق استباحة لحياة المريض، ليس لعجزه فقط عن الدفاع عن مساحته وحدوده الخاصة، فقط، بل لأنه مرض مثل أي مرض آخر يؤدي بصاحبه إلى حالة من الاستسلام الطوعي، والنكوص النفسي، إلى تعطل الرغبة بالحياة والحب، والاستمرار.
البطل في الرواية “حسين عبد الحميد” وهو صحفي في الخمسين من عمره يعمل في وكالة أنباء “المحروسة” وهو شاعر أيضا وأصدر ثلاثة دواوين ، لديه زوجتان وابنتان متزوجتان، ويعاني من اكتئاب حاد، يضطره إلى أخذ قرار الذهاب إلى مصحة “الكوثر” في محاولة للتشافي من الاكتئاب، وإذا كان المكان الرئيسي في الرواية تنقسم أحداثه بين القاهرة ومدينة المنصورة التي جاء منها البطل،فإن “الكوثر” كمكان ثالث يتخذ البطولة المكانية للأحداث. يبدو الكوثر مكانا أليفا، حاضن، يختار الأبطال مغادرته والعودة إليه بأنفسهم. لكن حتى هذا المكان مهدد بالإزلة لرغبة الورثة في بناء برج مكانه. هكذا يكون الواقع المادي المتعملق وحشا يهدد كل الأماكن، ويبتلع كل الذكريات.
يمثل الكوثر بالنسبة للبطل السارد حسين، المكان الذي يحقق له الأمان النفسي المفقود في الكيان الكبير؛ أي الوطن الذي يعاني من تشظيات كثيرة عقب ثورتين، واضطرابات سياسية، وفي الكيان الأصغر “البيت” مع اضطراب علاقته بكلتا زوجتيه، حيث اضطراب العلاقة العاطفية مع كلتاهما يبدو سببا يضاف إلى أسباب معاناة الاكتئاب التي يشكو منها البطل، رغم محاولته الهروب المستمر من رصد أي أسباب، وأن يكتفي بالحديث عن ماضيه وتاريخه الأسري وكأنه بهذه المراجعة للذاكرة يعمل على استنهاض الأمس كله في غرض التنقيب من خلاله عما يمكن أن يكون محركا أو سببا للمعاناة، أو يكون سببا للفرح. لكن الأفراح تبدو قليلة جدا في حياة حسين، ربما تكون نادرة، ليس لأنه شخصية اكتئابية فقط، بل لأن مأزقه الوجودي يرتبط بانتكاسات كثيرة تحيط بحياته، هذه الانتكاسات تتنوع بين السياسية والاجتماعية والعائلية.
السيري والروائي
يمزج الكاتب بين السيري والروائي، وتتقاطع في سرده تفاصيل واقعية ليس على مستوى الأحداث فقط بل على مستوى الأوصاف الجسدية أيضا، ربما لأن الكتابة في الرواية جزءا من الحل، لكن الراوي لا يجمل الحقائق، الكتابة لا تقدم حلولا يقينية، الكتابة تعين على التجاوز لكنها ليست الحل، ويؤكد على هذا بذكره لأسماء كُتاب تمكن كلب الاكتئاب الشرس من حبسهم في قوقعته ومنعهم من التحرك، لنقرأ: “مخطئ من يظن أن في الكتابة خلاصا، فالأمثلة كثيرة على من كتبوا، ثم انتحروا في النهاية، أو ماتوا منسيين في مصحات،أو حتى على أرصفة الشوارع”.
تظل الإشارة إلى حاجة الرواية إلى التكثيف لصالح المحور الرئيسي أي فكرة ” الاكتئاب”، في مقابل تغييب الجانب الواقعي، والانحياز للتظليل السردي الذي يبدو أكثر انسجاما مع سرد يستند للعالم الداخلي، ومعاناة أبطاله، حيث ذكر تفاصيل واقعية وأسماء أشخاص بعينهم أخذ القارئ من حالة التساؤل المطروحة في الجزء الأول من النص نحو الواقع الفعلي بكل ما يحمله من صراعات وتناقضات وخيبات.
وإذا كانت “حافة الكوثر” ألقت حجرا كبيرا حول ظاهرة مرض الاكتئاب وأوجاع أصحابه التي تشبه دمامل نفسية، تزول لكن تظل آثارها باقية، يبقى السؤال المطروح الذي تفرضه علينا الرواية: إلى أي مدى من الممكن للواقع العربي، وللطب النفسي فيه أن يحقق خطوات في ايجاد علاج حقيقي لمرضى الاكتئاب؟
د.لنا عبد الرحمن