أريج جمال تلاحق شبح فيرجينا وولف في الكنائس
من الممكن لهذا التساؤل الذي يختم قصة “موت فرجينا” في مجموعة أريج جمال “كنائس لا تسقط في الحرب”، اعتباره التيمة الرئيسية التي تحكم المجموعة، حيث الكتابة، والخوف من الانحدار إلى الهاوية، والوحدة أيضا، حالات تنسج الكيان الحكائي للقصص.
لا تنتمي قصص هذه المجموعة إلى القص الكلاسيكي في البناء أو المضمون الحكائي، بل تتشكل من بناء فيه تجاويف داخلية خفية للأحداث التي تبدو محورية ظاهرا، لكنها مبعثرة وغير منتظمة، تتوارى خلف تفاصيل نفسية واجتماعية متشعبة، تثير قلق الأنا الساردة وتدفعها إلى الهروب المتمثل في التخفي والمراوغة عبر متاهة مليئة بالثقوب تساعد على تحقيق حلم الوجود الزئبقي غير الممسوك، غير المنتمي للواقع، قصة “ما أنا إلا حلم” نموذج، حيث تبدأ بجملة: “ذلك العالم بديل، بديل لشيء عميق وجليل ولا نهائي”.
من هنا يبدو حضور الحواس الباطنية أكثر تأثيرا وتأثرا من الحواس الخمس، في مقابل حاستي السمع واللمس الحاضرتين بقوة عبر القصص في الصوت، في موسيقى بيتهوفن، في التلامس الجسدي، فإن البصيرة والوعي والاستقراء الداخلي من خلال الإنصات للذات في التأمل أو المنامات تشكل إشارات دالة وكاشفة عند قراءة النصوص.
تقول:
– طلبت من الله حياة خافتة دون صوت، نوما مستمرا لا ينهيه متأذ، كان الصوت والأمنية يتعانقان يوميا دون أن يتفقا.
– رأيتني في حجرة للموتى، كانوا يقفون في كل مكان، يسدون المنفذ الوحيد، بابي.. كنت أحاول أن أنقذ جسدي منهم وأخرج، أعرف أني بطول المكوث سأصبح ميتة مثلهم. (سرير مشدود إلى سقف)
– لا تخافي، ما أنت إلا حلم، لا أحد يستطيع أن يحذف الأحلام. (ما أنا إلا حلم)
– لقد بنيت حياتي بالكامل على الخيال.
– نحن نبحث عمن يحشو هشاشتنا بأي شيء. (لا يمكن أن تعرف أبدا)
– لم أخف من الهاوية يا أمي، فهمت أن النجاة الوحيدة منها هو السقوط فيها (موت فيرجينا).
– غامت الأرض والروح كفت عن الذهاب والإياب في الجسد.
(الطنين).
يغلف حضور فيرجينا وولف المضمون والأسلوب في قصص أريج جمال، حيث حضور تيار الوعي، وتداخله مع المونولوج الداخلي، وصوت الأنا، وضمير المخاطب يقدم حالات من العلاقات المتشابكة، غالبا هناك صديقة، وصورة ذكورية لرجل ما، قد يكون غريبا، أو حبيب البطلة، أو الصديقة، لكنه حاضر مثل صلة وصل غير مرئية تسبب الألم أو مثل نتوء بارز تعجز الذات الأنثوية عن استئصاله، هذا نجده بوضوح في عدة قصص، ذاك التجاذب العاطفي والجسدي الذي يراوح بين الشك والاضطراب والخوف والرغبة بالتخلي، التوق إلى الحرية، والإحساس بالعجز والحصار.
تمثل قصة “موت فيرجينا” في المجموعة ذروة الصراع الوجودي عند البطلة، فالتماهي مع شخصية فيرجينا وولف يدفع بالكاتبة ليس إلى استحضار روح فيرجينا وحسب، بل إلى تمثلها في لعبة تبادل للأدوار الغرض منها العثور على إجابات ظلت معلقة لأعوام طويلة، وستظل كذلك، لأن الكتابة لا تمنح ردا على الأسئلة بقدر ما هي لحظة انعتاق من الألم، بل إن الكتابة تنفتح على هاوية لا تُردم، كل تقدم فيها يؤدي لمزيد من النقص. الكتابة تأتي من العالم البديل الذي تنتمي الذات الساردة في جزء منها إليه، هذا العالم الذي يشبه مغارة من الأحلام تنزلق إليها، ثم تعود محملة منها بالحكايا المختلطة، تكتبها من دون أن تتمكن من الإمساك بها بعد لحظة العودة، تتلاشى فلا يبقى منها إلا سطور لا تحقق الإشباع المرجو منذ البدء.
هناك مفردات مشتركة في كل القصص يمكن الوقوف على بعض منها مثل: الشرود، المنامات، الأحلام، الهذيان، الخيال، الكتابة، الولع، الهاوية، الهشاشة، التساؤلات الوجودية، والموت كفعل مراوحة مستمر لحياة تمضي في رهان لا ينتهي. حيث تغلف القصص حالة من المقامرة الضمنية، لعبة القمار هنا تسير بين الموت والحياة، بين التلاشي في الكآبة، والرغبة بالانتحار والزوال، وبين نشوات خلابة لا تلبث أن تترك الروح في قلقها الدائم. الجسد المتألم يحضر على مدار المجموعة، حيث تتنوع الآلام الفسيولوجية المنعكسة على الواقع اليومي للبطلة الساردة لنقرأ: “دون أن أعرف أني أنتظر، أصعد الدرج الطويل وأهبطه، منتشية لأن ركبتي لا تؤلماني”. الألم هنا هو الأمر الطبيعي، والحال الاستثنائي هو غيابه، مما يؤدي إلى إحساس بالنشوة مع زواله، وبالتوازي مع هذا الإحساس ثمة حالة مستمرة من النزف الداخلي تتبلور في أشكال شتى، من دون أي ركود، تتخذ شكل الطنين مثلا، أو الفقد، أو الخسارة، أو الحب المبتور، أو بأبسط أشكاله القلق. إن استقرار هذه الحالات في الروح، يجعل من قصص المجموعة تنتمي لذات المحور الذي يطلق الأسئلة في الفضاء الإنساني من دون أن يتلقى أي إجابات لها. لنقرأ:”متى انبعث الطنين بالضبط.. من أي مكالمة خاذلة، من أي حديث حب لم يتم، من أي خبر بشع، أو ربما من صباح مكدر. في الأخير انبعث الطنين”.
من الممكن اعتبار قصة “الحبيب”، جزءا من قصة “تحت مظلة في فرانكفورت”، تتحرك ذات واحدة في القصتين، ذات تكتشف العالم عبر الحب، من خلال الآخر والانفتاح على الجسد، ومعرفته عن كثب.
في مقابل هذا تعود الذات الأنثوية إلى صراعها مع الكيان الاجتماعي العملاق الذي يبتلع أي نوع من الخصوصية في قصة “مسارات جانبية للتيه” تقول: “لا يمكنها أن تخرج إلى الشارع، فهي ليست رجلاً، في الحياة أشياء كثيرة تخيفها لأنها امرأة.فيما يتعلق بعنوان المجموعة الذي يعتبر عتبة النص، والذي لا يمثل أي قصة، فإنه من جانب المضمون يمر بشكل مشهد عابر في قصة “تحت مظلة في فرانكفورت” حين تقول الكاتبة: “على مسافة من الكنائس التي نجت وحيدة من الحرب، بين المباني العظيمة التي كانت يوما معسكرات تعذيب، أنظر لوجه الحياة وهي تبتسم”. إن تحليل العنوان في كلمة “كنائس” المجردة من الألف في تجاورها مع كلمة الحرب، وبينهما النفي لفعل السقوط يحيل إلى التشابك بين الديني، والمعرفي، والشمولي، حيث التساؤل عن مدى علاقة العنوان بالمضمون الحكائي والفني، ربما لا يمكننا الوقوف على صلة مباشرة بقدر وجود حالة من التشابك الروحي الذي يتجاوز حدود النص، سواء في حضور شبح فيرجينا وولف، أو موسيقى بيتهوفن، أو الدلالات الجمالية للمكان مدينة (فرانكفورت تحديدا)، مع المظلات، والشوارع، والقطارات، والأمطار، ووجوه بلا أسماء تحتل الذاكرة، ولعل الأهم من هذا هو جانب المعرفة والاكتشاف للأنا والآخر.
د. لناعبد الرحمن