” مترو حلب ” يسلك خطوط المأساة السورية
يبدو أن الحرب التي وسمت الرواية اللبنانية ببصمات عبثية، بحيث لا نكاد نجد رواية لبنانية تخلو من ذكر الحرب، تترك دمغات مشابهة على النتاج الروائي السوري، إثر حرب مستمرة منذ ما يزيد عن خمسة أعوام. ومن الطبيعي أن يجد المبدع نفسه متورطاً في الحديث عن الحرب في نتاجه الإبداعي، سواء بقي في سوريا أو غادرها نحو أحد المنافي ستحضر ويلات الحروب وكوارثها عبر كل الحكايات والأفعال والتحركات التي تظل تدور حول نفسها في ذعر مميت مما حدث ومما سيحدث.
الحرب، المنفى، الاغتراب، القدر، وعبثية الحياة، يمكن القول إنها المحاور الأساسية التي تتقاطع عندها رواية «مترو حلب» للكاتبة السورية مها حسن. كل شيء في الحرب مباح، وكل شيء ممكن ووارد الحدوث، هذا ما نجده في معظم روايات الحرب حيث ما لا يمكن تصديقه في الحياة العادية، يصير أمراً واقعاً ينبغي على الأفراد التعايش معه، وهذه المعادلة ربما يصعب تصديقها إلا على من خبر الحروب وعرف معاناتها.
تحضر الحرب في الرواية من خلال البطلة سارة، التي انتقلت في مصادفة قدرية إلى باريس مع اندلاع الشرارة الأولى للحرب. لم تكن هاربة ولا لاجئة، بل غادرت البلاد لتمضي خلف حكاية بعيدة عمرها 30 عاماً، من عمر سارة؛ تتلقى سارة طلباً ملحاً للقدوم إلى باريس من خالتها أمينة المقيمة هناك وتصارع مرض السرطان. أمينة ليست امرأة عادية، بل فنانة عرفتها مسارح باريس ومنحتها الشهرة والمجد.
منذ الفصل الأول نعرف أن البطلة تدون أفكارها في كتابين، كتاب الحرب، وكتاب الأحلام، كما أنها تقوم بتفريغ تسجيلات تركتها خالتها الراحلة أمينة، التي غادرت الحياة بعد وصولها إلى باريس بأشهر عدة. هكذا تصبح سارة وحيدة في بلد غريب، وطنها اندلعت فيه الحرب، ولا أحد يشجعها على العودة. هي في المنفى وحدها، تقوم بتدريس اللغة العربية كي تحصل على ما يؤمن معيشتها، تلتقي ببعض الأصدقاء السوريين وتشترك معهم في التظاهرات، لكن الاغتراب عنهم وعن أفكارهم يجعل سارة وحيدة ومعزولة معظم الوقت. إنها عزلة اختيارية فرضتها على نفسها لأنها لا تجد قدرة نفسية على التواصل مع معارضين استفادوا من الثورة ويهتفون من بعيد، بينما الثوار الحقيقيون ماتوا في الداخل، أو أنهم رفضوا المغادرة، تدين الراوية سارة النظام، لكنها لا تُبرئ المعارضة من التحولات التي طرأت عليها بعد قيام الثورة.
ثلاثة خطوط
يمكن القول إن الرواية تمضي ضمن ثلاثة خطوط سردية، أحدها يتعلق بالماضي وفيه حكاية أمينة بكل تشابكاتها وأثرها ونتائجها على حياة سارة، والثاني يرتبط بالعالم الداخلي لسارة مع الأحلام والكوابيس، والخوف الشاسع من الحرب والألم النفسي من قسوة المنفى، حيث الاغتراب ليس عن اللغة والوجوه وحسب، بل عن الرفاق أيضاً وأصدقاء الوطن، لأن الحرب خلقت حالة من العداء والانقسام، فصار الشك راسخاً فلا يترك مجالاً لحوار حقيقي. ويمضي الخط السردي الثالث ليحكي عن حياة سارة الماضية في حلب، عالمها الأسري الدافئ والحميم، ومن هنا جاء عنوان الرواية خيالات الراوية سارة عن حلب، وعن مترو تحلم بأن ترسم خريطته. هكذا نعرف أن سارة مهندسة أيضاً درست الهندسة وهي تحلم بالفن بالغناء على المسرح، لكنها لم تتمكن من الانتصار لحلمها كما فعلت أمينة. لا تفصل صاحبة «حبل سري» بين هذه الخيوط الثلاثة بل تضفر بينها في سرد يجعل من تيار الوعي حاضراً على مدار النص، وهذا يعززه حضور اسم فيرجينا وولف وسوزان سونتاغ في أكثر من موضع. ولا تفصل أيضاً بين الحرب الحاضرة بكل ثقلها ورائحة البارود، وقطرات الدم المتخثرة على الجثث. حرب تُحكم القبض على مصائر الأبطال: الأم البديلة «هدهد» تموت في عيادة الطبيب «عادل»، حبها الأول الذي اقتنعت أخيراً بالذهاب للقائه، لكن الموت يخطف حياتها في قذيفة تسقط على العيادة، قبل لقائهما، الصديقة هالا تكتشف خيانة صديقتها غنوة التي دخلت في علاقة غرامية مع رجل من أتباع النظام قام بتسليم الشبان إلى الاستخبارات، سوسن شقيقة البطلة تغادر إلى تركيا وتعيش في ضنك بانتظار الانتقال إلى أوروبا، هكذا تترك الحرب بصمتها على مصائر الأبطال جميعاً، من بقي منهم ومن غادر.
سارة، أمينة، هدهد، ثلاث شخصيات محورية يغزل السرد مجراه حول حياتهن، ولا يقل حضور إحداهن أهمية عن الأخرى، لأن وتيرة الأحداث المتشابكة والمعقدة في ماضي الأختين أمينة وهدهد أوجدت الحياة المرتبكة لسارة. أمينة هي الأم البيولوجية لسارة، لكنها تخلت عنها وهي طفلة لم تتم عامها الأول ورحلت إلى باريس مع رجل يُدعى جيرار. وعدها بأن يصنع منها نجمة؛ تهجر أمينة زوجها وليد وأسرتها وتختفي مدة ثلاثين عاماً تصنع خلالها مجدها الكبير على مسارح باريس ليكون اسمها «أمينة دو داماس». هذه الحقيقة لا تعرفها سارة لأنها واقعياً ابنة هدهد التي رضيت الزواج من زوج أختها كي تربي الطفلة سارة، ثم تعاود أمينة الظهور في حياة وليد وهدهد بعد اندلاع الحرب عبر اتصالات هاتفية تلح من خلالها على رؤية سارة. تنقسم الرواية إلى ستة فصول، وزعت الكاتبة أحداثها في تسلسل يصل التصاعد إلى ذروته الدرامية مع الفصل الخامس الذي يمكن اعتباره من أكثر الفصول تأزماً وعذوبة من الجانب النفسي مع تجلي ثنائية الضياع والغربة، تتوه سارة في عربة المترو بعد ليلة من الثمل أمضتها مع صديقتها هالا عقب معرفتها بأن هدهد ليست أمها بل أمينة التي وصفت مشاعرها نحوها في مطلع الرواية بأنها لا ترتبط معها بمشاعر قوية، لكن اكتشاف الحقيقة يجعل سارة مجرد فتاة متشردة في عربات المترو تصعد في عربة، لا تؤدي بها إلى منزلها فتنزل لتصعد في عربة أخرى، من دون أن تتمكن من تذكر عنوان المحطة التي تقصدها للذهاب إلى بيتها.
حالة ضياع
حالة الضياع هذه التي تكتب عنها حسن، يمكن رصدها أيضاً في روايتها «حبل سري»، وكأن المقصود منها تقديم حالة قصوى من الاغتراب الداخلي لبطلات يسعين إلى الفرار من الحاضر عبر التشرّد في دروب مجهولة بغية النسيان والتلاشي التام، فالضياع في «مترو حلب» يكون جسدياً في الفصل الخامس، لكنه موجود في شكل نفسي منذ مطلع الرواية مع تخيلات البطلة أنها في حلب، وبهدف إبعاد هذا التخيل تعمد إلى قراءة أسماء الأماكن التي تحيط بها من عناوين تثبت أنها موجودة في باريس، لكن هذا لا يبدو كافياً، لأن كل الأماكن والشوارع والحارات في مدينة النور تقود سارة إلى التخيل أنها في حلب، وأن وجودها في باريس متخيل ليس إلا. تقول: «البيغال مثلاً يشبه بحسيتا، محطة سان لازار تذكرني بمحطة بغداد، مونتمري كأنها سوق الهال، مونمارتر هي قلعة حلب بالنسبة إلي”.
في «مترو حلب» يجدر التوقف أيضاً عند تعدد الأصوات وتداخلها في السرد. يحضر راو عليم كلي المعرفة يتنقل بخفة بين الماضي والحاضر، وتختار الكاتبة أحياناً عناوين كاشفة لما يود قوله مثل: «ما لا تعرفه سارة عن وليد وعادل» و»ما لا تعرفه سارة عن هدهد أو العيش في حقيبة»، هذه الفصول تكشف أجزاء كثيرة من الماضي والتي يُستنتج أن سارة الساردة لن تعرف بها، وستظل طي الكتمان، لأن ما تود سارة معرفته موزع بين أمينة التي رحلت وهدهد التي أنهت قذيفة حياتها.
هكذا تظل سارة وحدها الضلع المتبقي من مثلث أمينة وهدهد، تعيد تشكيل رؤيتها الأعمق لحياتها، لفنها الذي تجاهلته، وتتقبل وجودها في المنفى لتختم روايتها بالقول «الإقامة والاستقرار ترف لا نمتلكه نحن أبناء الحرب، نسعى من محطة إلى محطة من هذه المنافي حاملين معنا أرواح تسكننا في كل محطة». وكأن الكاتبة بذلك تنتصر للحياة في مواجهة الحرب والموت والخيانات.
لنا عبد الرحمن