أمل رضوان تعود إلى “البيت الأولاني”
في زمن اتفق على أنه زمن ازدهار الرواية، تظهر في الساحة الأدبية مجموعة من الإبداعات القصصية التي تنحاز للقصة القصيرة، وتعيد إلى الواقع فكرة إمكانية الاستمتاع بقراءة القصص القصيرة من جديد، بعد أن شهد هذا الفن تراجعا ملحوظا في السنوات الأخيرة وهجرة أصحابه له نحو كتابة الرواية.
مجموعة “البيت الأولاني” للكاتبة أمل رضوان تنتمي إلى المجموعات القصصية اللافتة التي صدرت عن دار العين – القاهرة، ونالت جائزة ساويرس لعام 2015، والجدير بالذكر أنها المجموعة الأولى للكاتبة.
وكما يتضح من دلالة العنوان بأن فعل الرجوع إلى الماضي يشكل الهاجس الرئيس للنص، حيث تتمحور جميع الحكايا بكل رموزها ودلالاتها على ما كان، فالبيت الأولاني هنا ليس مجرد مكان فقط من جدران وغرف وأثاث، بل إن كلمة بيت تمثل نواة للحياة التي كانت بكل شخوصها وأبطالها من بقي منهم ومن رحل.
فمن خلال الحنين للزمن الذي مضى، ومراجعته بقسوة في آن واحد تنسج أمل رضوان قصصها، وتستهل المجموعة بعبارة مأخوذة من قصيدة للشاعر محمود درويش تقول: “ربما كان هذا الحنين طريقتنا في البقاء”؛ فالحنين هنا ليس مجرد عاطفة عتيقة تحرك ذاكرة الأبطال، بل إنه الأساس الذي يدور حوله عالم الحكايات حيث لا وجود للحاضر هنا إلا عبر الوعي الذي انسلخ عن ماضيه، ورجع إليه ليختار منه ما يود قوله، ليجرده من تلك الهالة البراقة في تزامن مثالي مع حزن راسخ، لا يمكن التحرر منه.
وفي مقابل هذا الحزن الصامت على كل ما كان، تبدو الإدانة الساخرة للطبقة البرجوازية الصغرى من المجتمع المصري التي تحللت بفعل مرور الزمن، نجد هذا في عدة قصص كما في “مسحوق الزهرة لا يمحو كل البقع”؛ القصة في ظاهرها منتشرة من حيث المضمون، لكن السرد يأتي من ذاكرة طفلة تعرف أن أباها قام بالاعتداء على الخادمة الصغيرة وأنجبت منه طفلا، ثم قامت أمها الخادمة الكبيرة بإلقائه إلى المجهول، لنقرأ: “بعد نحو ساعتين عادت أم صابر لاهثة من صعود السلم، رفعت سعدية رأسها بصعوبة وبطء، وسألت بوهن شديد: فين الواد يامه؟”، خفضت أم صابر رأسها وتمتمت “خرجت بيه السطوح خطفته مني الحداية وطارت”.
تختم أمل رضوان قصتها المؤثرة بجملة من اللهجة المحكية التي تبدو معبرة جدا عن الموقف، وتساعد في فهم وتكثيف الجو العام ليس للقصة فقط، بل للطبقات الاجتماعية التي تتجاور وتعمل الطبقة الأقوى على سحق ما دونها. تستعين الكاتبة في معظم القصص بمفردات عامية بشكل محدود لكنه يبدو ضروريا ويؤدي الغرض من الصورة المراد توضيحها.
تتسلسل القصص في مجموعة “البيت الأولاني” في خط واحد، بحيث ينفع أن تكون متتالية قصصية، لأن البطلة الساردة – الطفلة – تحضر في كل القصص، بالإضافة إلى تكرار أسماء الشخصيات الواردة في عدة قصص كما في “مربى لارنج” و”الحي أبقى” و”ترتيلة الكاف” و”حج مبرور”، في هذه القصص تظهر البطلة الساردة الطفلة الصغيرة التي تراقب العالم من حولها وتختزن في ذاكرتها المواقف المؤثرة لتظهر فيما بعد عن طريق الوعي لتتحول إلى حكايات، تحكي عن جدتها “زهرة” المسلمة المتعصبة، التي ترفض تذوق مربى جارتها المسيحية، لكنها حين تتعرض لأزمة سكر تقول لحفيدتها: “سمي بالرحمن واديني ملعقة كبيرة”.
تنقل أمل رضوان في قصصها مشاهد مألوفة من العلاقات العائلية، لكنها تتمكن من اختيار اللحظة بذكاء وببساطة، مما يمنح قصصها ديناميكية وخفة محببة عند القراءة، من دون إدانات للأبطال الفاعلين من حولها، تقدم صفاتهم الجسدية والنفسية بكل ما فيهم من حسنات ومثالب مع الابتعاد عن توضيح موقفها الشخصي منهم سوى عبر الترميز المبطن الذي يحمل أكثر من تأويل؛ فالأم تبدو في القصص سيدة مغلوب على أمرها من قبل الزوج وأهله، أما الأب فهو زوج مثالي في انتمائه لمجتمع شرقي يقدس مكانة الرجل فيه على حساب أي شيء آخر، في حين تبدو الطفلة الساردة محمولة على جناح رغبة كبيرة في الانطلاق من عالمها الضيق إلى فضاء الحياة الرحب.
تشكل المفاجأة عنصرا أساسيا في قصص “البيت الأولاني”؛ لكن المفاجأة في القصص تبدو سلسة وتلقائية جدا، تحولات نفسية أحيانا كما في قصة “الحي أبقى”، مجرد موقف صغير كاف لموازنة الحكاية وتحويل دفتها من جهة إلى أخرى، أو كما حدث في قصة “النمل الفارسي”، التي بدأت في الأسطر الأولى مع حكاية بسيطة لا تنبئ عن المصير المنتظر في النهاية، حيث يتم نسيان طفلة صغيرة في القبر لنقرأ: “لم تلحظ أمها دخولها خلسة وراء الطفل الملفوف بملاءة بيضاء، أغلقوا عليها الحفرة ونسوها. ظلت تخبط بيديها الصغيرتين لعلهم يسمعونها، ولما لم يسمعها أحد نامت بجوار الطفل الصغير قابضة على قطعة فطير عليها جبن أبيض شهي”.
تبدو قصة “أمنا الغولة” التي ختمت فيها الكاتبة مجموعتها، من أكثر القصص التي تتضمن ارتباطا بالزمن الحاضر، حيث الزمن فيها استرجاعي بشكل كاشف للوعي المختلف عند اختيار لحظة السرد ومراجعة الماضي. تحكي القصة عن شخصية فاطمة عمر التي مثلت في حياة الطفلة – الساردة، رمزا لأمنا الغولة، بسبب ما تمارسه من سلوكيات مخجلة تقول: “ظلت فاطمة عمر بالنسبة لي أمنا الغولة التي تحكي جدتي عنها في الحواديت، فهي عندما تأتي على ذكر جني أو عفريت في حكاياتها أتمثل صورة فاطمة عمر”؛ لكن فاطمة عمر تتحول إلى شخصية أخرى حين تتعرض البطلة لتحرش في الشارع، حينها تصير الغولة منقذا يقول لها: “ما تخافيش يا ضنايا، حمشي معاك لحد باب البيت”.
أبطال قصص أمل رضوان هم أشخاص عاديون، بسطاء في تكوينهم الفكري، اختارتهم ذاكرة الكاتبة من عالم الطفولة، وأعادتهم إلى الحياة على الورق بشكل جديد أكثر نضجا ووعيا، بحيث تكتفي بالحكاية التي تكشف ما حدث يوما، تستعيدها من قلب الذاكرة، وتنسجها بسلاسة تاركة للقارئ حرية رؤية أكثر من وجه لها.
لنا عبد الرحمن