منير عتيبة في “موجيتوس” وكتابة التاريخ من الحدود
عند تقاطع الحدود بين فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، يختار الكاتب منير عتيبة هذا المكان ليكون مسرحا للعالم الروائي الذي يلتقي فيه أبطال روايته “موجيتوس” ( دار حورس – الاسكندرية)، أما الزمان فيعود لحقبة من التاريخ الأندلسي التي حكم فيها عبد الرحمن الناصر.
لكن السؤال المطروح على أي كاتب يود خوض تجربة الكتابة عن مرحلة التاريخ العربي في الأندلس هو: ما الذي سيكتبه بعد كل ما كتب، بعد عدد من الروايات قديمة وحديثة تناولت الأندلس إما تمجيدا للوجود العربي فيها، أو رثاء، على مغادرتهم لها؛ خاصة وأن الأعمال الروائية عن تلك الحقبة غير قليلة، نذكر منها على سبيل المثال: ” هذا الاندلسي” بن سالم حميش، “ثلاثية غرناطة” رضوى عاشور، ” رحلة الغرناطي” ربيع جابر، “ليون الأفريقي” لأمين معلوف، “الموريسكي الأخير” صبحي موسى، ” البعيدون” بهاء الدين الطود، “فاجعة الليلة السابعة بعد الألف” واسيني الأعرج، “راوي قرطبة” عبد الجبار عدوان… وغيرها من الأعمال الروائية؛ إلى جانب روايات غربية تناولت أيضا الوجود العربي في الأندلس، مع التركيز على مرحلة السقوط كما في روايتي : “المخطوط القرمزي” لأنطونيو غالا، و”المداعبة” برونو بونتميللي، و”جَرّاح الأندلس” لأنطونيو كابانياس دي بلاس، وغيرها قائمة طويلة لأعمال روائية تناولت مراحل من التاريخ العربي في شبه جزيرة ايبيريا.
لذا ما هي اللحظة التاريخية التي يمكن أن يدلف منها كاتب رواية جديدة عن الأندلس، بحيث لا يكرر فيها ما قيل، ويقدم حكاية فيها وجهة نظر مختلفة للقارئ؟
في رواية “موجيتوس” يختار الكاتب المصري منير عتيبة عشرين بحارا ليكونوا أبطالا لروايته، حين يقررون بناء سفينة لغزو صقلية،لكن الأقدار والعواصف العاتية تقودهم إلى شواطئ جنوب فرنسا. “هذه الواقعة الحقيقية التي مر عليها التاريخ الرسمي بجملة عابرة ” -كما يقول عتيبة – تتحول في ” موجيتوس” إلى بؤرة أساسية للأحداث. أما الزمن فيمتد عبر مائة عام، تتخلله مرحلة حكم عبد الرحمن الناصر، وهي مرحلة حفلت بظهور القراصنة وقطاع الطرق من الجانبين المسيحي والمسلم، وكانت تتم فيها أعمال وحشية وعنيفة تحت مسمى الدين.
تتنوع أهداف أبطال رواية “موجيتوس” العشرين،حيث الظاهر يبدو هدفا مشتركا في غزو صقلية، لكن في العالم الداخلي لكل منهم هناك غايات مختلفة. إن ما يشترك فيه أبطال ” موجيتوس” هو طبيعتهم الذاتية كشخصيات ثائرة تعاني القلق الوجودي وتشوش الهوية، رغم المآلات المختلفة لكل شخصية، إلا أنهم اجتمعوا على الإحساس بعدم الاستقرار والرغبة في الرحيل بحثا عن أمل جديد، وأرض جديدة ربما يعوضوا في رحيلهم جزءا مما فقدوه من أحلامهم. لكل واحد منهم حكاية مختلفة دفعته للمغامرة، موجيتوس مثلا يقرر الهرب من أبيه بعد أن أغرم بجاريته عجب، وحرمه منها والده بأن أخذها لنفسه، أما التوأمين صفي وعلي التي دأبت أمهما على نسخ القرآن بخط مذهب، ووهب مصحف كلما مات أحد أبنائها، فإنهما لا يستطيعان مواصلة البقاء في المكان نفسه بعد موت والدتهما. أمير البحار يوسف العامري تسيطر سفنه على سواحل أوروبا، تجوب البحار فلا تجد من يجرؤ على أن يعترضها، وتوقه الجارف في الحياة هو القتال كي يظل أميرا.
بين الهوية والحضارة
وسط هذا النسق التاريخي الذي اختاره عُتيبة لأبطاله، حيث تضمنت الرواية أسماء حقيقية لبعض الشخصيات التاريخية مثل زرياب، عبد الرحمن الناصر وغيرهم، يكشف الكاتب جزءًا من تاريخ تلك المرحلة المضطربة بصراعات شتى ليعكس الصراع الديني تحديدا، كاشفا عن تشابه الأحداث بين الماضي والحاضر، مع تقاطعات آنية يمكن ملاحظتها بوضوح في التساؤل عن الهوية، إلى جانب وجود أفكار احتمالية عن التاريخ وتحولاته ومواقف أفراده لنقرأ هذه العبارة :” لو كان عبد الرحمن الغافقي أكثر حسما لما اندحر المسلمون تحت ضربات شارل المطرقة ولتغير تاريخ العالم”.
المكان هو الأندلس أي الغرب، والهوية لأبطال عرب مسلمين يفكرون بكيانهم الشرقي، ولعل سؤال الهوية المنبثق من الرواية عبر اسقاطات عدة، يحضر عند زعزعة الثوابت في الانتماء المكاني، والزماني، والفكري، حين ينفصل الفرد عن دينه أو مكانه المعبر عن هويته، ويكون عليه الالتصاق بهوية جديدة وإعادة تشكيل انتمائه.. هكذا يواجه الأبطال أزمة الهوية فيصير “مجاهد” موجيتوس”، وكريستينا تتحول إلى “ماريا”. أحد الرجال العشرين ويدعى الطماشكة الزناتي هو صاحب فكرة غزو سواحل أوروبا فالطماشكة تميز بتصميم الفاتحين وعناد يليق بحفيد كاهنة، وبالتعاون مع يوسف البحار تبدأ الخطوة الأولى في اختيار الرجال للمشاركة في الغزو ثم فتح باب الانضمام للراغبين بالقتال. لكن من الطبيعي أن لا تستمر الحياة بهدوء ووفاق في حصن “فرانكيستيوم” الذي توسع ليصير دولة مصغرة شكلت كيانها الخاص، وبالتالي تبدأ محاولات التمرد الأولى مع حسان الغافقي الذي ينشق عن الطماشكة ويؤسس لنفسه حصنا جديدا. يقدم الكاتب المبررات النفسية لانشقاق حسان، فهو يطمح إلى تحقيق النصر الذي لم يحققه جده عبد الرحمن.
تمكنت الرواية من تقديم سمات تلك المرحلة من التاريخ الأندلسي، هناك الاهتمام بالفن من خلال شخصية (عيسى ابن أحمد)، والترحال ( موسى ابن الحكم) ، الطب (هشام ابن عبد المعين)، وفي الوقت عينه طرحت أسئلة كثيرة حول تلك المرحلة المشبعة بإحساس الفرد العربي بخصوصية هويته وتفرده، وحلمه بالنصر المادي والمعنوي، فمن خلال التوسع الجغرافي والقيام بالاقتحام والغزو، يتحقق مراده في الفخر والتسيد الذي يتقاطع ايديولوجيا مع هدف ديني (ارضاء الله) ودنيوي (الفوز بالغنائم)، لكن في نفس الوقت إذا كانت هذه هي الفكرة البارزة التي نقلها التاريخ إلينا في معظم الكتب والدراسات التي تناولت مرحلة الأندلس إلا أن ثمة طبقات كثيرة مجهولة من الحكايا، لم يكشف الزمن حقيقتها. من هنا ربما تبدو رواية “موجيتوس” في بعدها التخييلي محاولة لسبر أغوار واحدة من تلك الحكايات، التي تسعى للكلام بصوت الغرباء والمنبوذين، الغزاة والحالمين أيضا. لكل بطل قصة تخصه وحده، لا تتشابه مع غيرها من القصص، تكشف عالمه وطبيعة علاقته بالأندلس ومدنها وناسها وفق المستوى الواقعي للبشر العاديين، لكن في التوازي مع هذه الفكرة اتحد الرجال العشرون حول فكرة واحدة تخصهم جميعا حلم الوصول إلى منطقة جديدة، يكونون هم أول من يصل إليها. وإن بدت هذه الفكرة حقيقة منتزعة من التاريخ الذهبي للعرب، فإن تحويل الحدث إلى مجموعة من التشابكات الإنسانية في مغامرة سردية تغوص في البعد النفسي للأبطال أكثر مما تغوص في الواقع الأندلسي نفسه؛ حيث لا استغراق في التحسر على الماضي المهدور، ولا لوم أو حسرات، هناك اللحظة الآنية فقط التي تبدأ مع موجيتوس بعد أن تجاوز عامه المائه حين يقرر مواصلة الكتابة في مخطوطه ليحكي الحكاية كما حصلت لنقرأ :”كانت يده تواصل مهمتها، سحب حقيبة من الجلد القرطبي من المنطقة السرية، تشمم الجلد البني العتيق، إنها ذات الحقيبة التي خرج بها هاربا منذ مائة عام.”
أظهرت الرواية أيضا مرحلة الإقطاع في أوروبا، وسلطة الكنيسة، والعبودية التي شاعت في ذلك الزمن.لكن اللافت في الرواية أن أسلوب التعبير لا يأتي ضمن لغة قاسية أو حادة للتعبير عن مشهد عنيف أو قتال، بل تميز النص في محافظته على منسوج لغوي واحد في سرد الراوي، فيما ظهرت تعبيرات لغوية متباينة في حوارات الأبطال وتعبيراتهم الخاصة عن أنفسهم.
وبعيدا عن النسق التاريخي الذي تمضي فيه الرواية، يمكن التوقف أيضا أمام خصائص سردية على مستوى اللغة في وجود تفاصيل تنسجم مع التركيب النفسي للأبطال، هذا نجده واضحا في طبيعة العلاقة مع المرأة، وفي الإعلاء من عاطفة ” الحب” كقيمة نبيلة تستحق التضحية، كما هو عند موجيتوس في علاقته مع عجب ، التي ظل يتذكرها حتى أواخر أيامه، وكذلك عبدالله البلوطي الإسباني المسلم الذي ظل يستذكر أسماء ابنة الفقيه ويغادر قريته ” فحص البلوط” لأن والدها الفقيه رفض تزويجها له، أيضا مع عبد الرحمن بن سالم في عشقه لزوجته صبح التي لا تنجب ورغم هذا يظل على حبه لها، وارتباطها في ذاكرته يحضر مع رائحة العنب، لنقرأ ما يحمل دلالة الحواس في النص:
“تتخلل رائحة العنب الحلوة الحامضة مسامي، تصبح رائحتي الخاصة ورائحة صبح، هي الرائحة التي تعبر عن عشق كل منا للآخر، هي الرائحة التي يدعو جسد كل منا جسد الآخر، وهي ما يتبقى من رحيق العشق وفورة الجسد”.
إن حديث عبد الرحمن بن سالم عن رائحة صبح يستدعي عند موجيتوس عشقه لعجب التي كانت تحب العنب أيضا، وتقول : “إن ملمس حبات العنب يمنحها لذة لا تشبه طعم امتصاص الحبات ببطء في فمها”
يتسع حضور الحواس ليتجاوز فكرة العاطفة والرائحة ليشمل أيضا الموسيقى في حديث عيسى بن أحمد عن علاقته بالعود :”كان الوتر وسطا بين الحاد والهادئ، وكان زرياب يعلمني كيف أسكب روحي عليه”.
يوجد في المتن الروائي أكثر من راو، يبدأ النص مع راو عليم، يصف من الخارج حال موجيتوس الذي ينوي كتابة الحكاية منذ بدايتها، ومع موجيتوس يبدأ فعل التدوين حيث يكتب موجيتوس الحكاية، ويمنح مساحة لسائر الشخصيات للكلام عن حكايتها. وقد ميز الكاتب صوت الراوي العليم بوضع الفقرات بين قوسين وبخط مائل.
لعله من المهم أيضا عند مقاربة أسطورة الأندلس، رؤية تلك الحقبة أيضا بنوع من الموضوعية والابتعاد عن المثالية المطلقة في تقييم تاريخ طويل للوجود العربي في إسبانيا، بلا شك هناك مساهمة قيمة للحضارة الأندلسية في تاريخ البحر الأبيض المتوسط، لكن في التوازي مع هذا ثمة صراع سياسي وديني، تجلى في تنوعات شتى من الحروب والدماء التي أريقت بين المسلمين، والمسيحين، واليهود؛ لذا لا تبدو أسطورة التعايش نقية تماما، فقد تخللتها نزاعات كانت تُحسم غالبا لصالح الطرف الأقوى. إنه تاريخ حافل بالأمجاد والإنتصارات مثلما هو حافل بالهزائم الانتكاسات، وهو ما حرصت رواية “موجيتوس” على مقاربته بدون تحيزات مسبقة.
د. لنا عبد الرحمن