“اعتدال الخريف” تداعي الذات المستلبة في أزمنة الحرب
د.لنا عبد الرحمن
تنطوي رواية “اعتدال الخريف” للكاتب اللبناني جبور الدويهي على تمثل سردي خريفي حزين يتواءم تماماً مع عنوان الرواية، فالكاتب يغوص عميقاً في تخوم النفس الموحشة ويمعن في التأمل في الانفعالات العميقة التي تعصف في الداخل وتترك في الروح ما يشبه الدمار الذي يلي العاصفة، والرواية تنتمي إلى ما يسمى أدب “القصة القصيرة – الرواية” إذ وفق الكاتب في تطويع بعض ميزات القصة القصيرة وفي تطبيقها على نصه في نفس روائي يدمج بين الحركة السهمية التي تختص بالقصة القصيرة وبين الانسياب السردي الذي تحتاج إليه الرواية للتمكن من توضيح أبعادها المكانية والزمانية، ولإضاءة العوالم الداخلية للأبطال.
يبدأ الحدث السردي من تاريخ 30 أيار (مايو) 1986 وينتهي في 22 أيلول (سبتمبر) 1986، أي أن الكاتب يضعنا منذ الأسطر الأولى في إطار زماني ومكاني محدد ثم يشرع في التنقل من حدث إلى آخر عبر استخدامه حيلة مذكرات بطل الرواية التي شكلت مادة الرواية نفسها، ويكاد المطلع القصصي أن يعلن عن بنية النص العامة، وهذه مقدرة فنية تهيئ القارئ للولوج إلى متن الحكاية، وعلى المستوى الدلالي العام قد المطلع إحاطة شاملة بفضاء النص الروائي من حيث الزمان والمكان وظهور الشخصية التي تجري الأحداث من خلالها.
تسير عملية السرد ظاهراً في شكل أفقي مع تأريخ للزمن وتتبع للحدث الخارجي، إلا أن الكاتب يلجأ إلى السرد المتقطع خلال مجرى السرد العام كي يتمكن من الغوص في الذاكرة حتى العمق لالتقاط ذكريات الطفولة والمراهقة والصبا، يتمحور الحدث الرئيس في النص حول أزمتين أزمة خارجية تتمثل في حضور الحرب كهاجس دال على تحكم أفعال خارجية في حياة بطل الرواية، الأزمة الثانية نفسية تبين في علاقة البطل مع كيانه الذاتي ككل ومع علامة الآخرين أيضاً.
وعلى هذا الأساس وبما أن تمظهر أزمة الحرب تنحصر مدلولاته في رصد الأدى المادي لابد من تحليل نفسي للنص لسبر دلالات الحرب من الناحية المعنوية المنعكسة على تصرفات الأشخاص وردود أفعالهم.
يبدو بطل الراوية خلال صفحاتها ملاحقاً بأحاسيس مضطربة كالخذلان والوحدة واللاجدوى وعاجزاً عن خلق عوالمه التي يطمح إليها، ينكفئ على ذاته ويفقد القدرة على التواصل مع الآخرين، فهو يتحدث مثلاً عن فتاة أميركية تدعى “لارا”، ويكتب مذكراته بحجة أنه يكتب إليها، لكن كلماته ورسائله تظل حيلة تشي برغبة مكبوتة في التحرر والانطلاق من عالمه الضيق، ومن أجواء الحرب المشحونة بالتوتر والاضطراب، وهو يستمر بالكتابة على رغم يقينه أن رسائله لن تصل أبداً لانقطاع وسائل الاتصال بسبب الحرب أيضاً، هنا يبدو الحصار الفكري هاجساً آخر يضاف إلى هاجس الحرب أو بعبارة أخرى معاناة تولدت بفعل حدث الحرب، وسكنت اللاوعي الداخلي للبطل واستحوذت على إحساسه بالرغبة في التجرد من كيانه الخارجي والداخلي، هكذا نراه يسعى أولاً للتخلص من لوحاته ومكتبته والبحث عن أسلوب جديد للعيش قائلاً: “القواميس تنظم العالم والروايات تجعله ركاماً” ثم يعمل على تبديل مظهره الخارجي بمظهر مختلف تماماً عما عرفه الناس، يحس بطل الرواية برفض تام لذاته في واقعها الحالي بعد أن سقط رهينة الشعور باللاجدوى والخواء الداخلي إثر تعرضه لخسارات نفسية.
يتوافق هذا التحليل مع تنامي عملية القص التي بدأت وانتهت في غطار حدث الحرب المهيمنة بسلبية مطلقة لا على حياة البطل وحسب، بل على حياة الشعب كله، فالبطل هنا رمز مصغر للتخبطات النفسية الناتجة من كوارث الحرب وويلاتها، فمنذ الصفحة الأولى يواجهنا الكاتب بحدث الحرب: “قبل المغيب سمعنا أصداء غارة إسرائيلية على مخيم اللاجئين المحازي للبحر”، يتضح من هذا الإيقاع المتوتر للسرد مدلول يخفي تداعياً داخلياً للبطل يستمر على مدى صفحات الرواية وينتهي في الصيغة نفسها، إذ تبدو التركيبة السيكولوجية للراوي مكونة من انشطارات داخلية وتحولات نفسية حادة، ربما لأنه من النخبة المثقفة في المجتمع التي تحلل الوقائع الراهنة في كل أبعادها وتبصر بوعي فكري الخيبات المرتقبة الناتجة من الدمار المادي والمعنوي للحرب، فالراوي خلال كتابة مذكراته، أي خلال قيامه بعملية السرد لا يكتفي بالرحيل بعيداً في أغوار ذاته، بل يتأمل تصرفات الآخرين ويحللها وفق رؤاه الخاصة، وتأملاته التي يعبر من خلالها عن مواقفه الفكرية ومعتقداته.
تحتل المرأة العربية في رواية “اعتدال الخريف” مواقع مختلفة في التمثل السردي لعملية الروي، تبدو “لارا” الفتاة الأميركية التي التقاها في أميركا وجذبته إليها أحاسيس متداخلة بين الحب والرغبة والدهشة، امرأة خيال ومدخلاً إلى حلم دفين يحاول البطل الفرار إليه وإن كان موهوماً، إذ تظهر “لارا” كنموذج للمرأة المتحررة التي تعبر عن رغباتها بلا حرج أو تردد.
أما “ماري” صديقته في القرية فتجمعه بها علاقة جسدية مفرغة من العاطفة، وربما كانت هذه العاطفة موجودة بينهما في وقت ما، لكنها تبدو كبقية الأشياء في حياة البطل التي يعمل على تفريغها في ذاكرته والتخلص منها، أي أن علاقته مع ماري دخلت في مرحلة الاحتضار من غير توضيح كاف يشمل الأسباب التي أدت إلى نشوئها وزوالها وإن كان ظهور “لارا” في حياته الدافع المحرك على ذلك النموذج النسائي الأخير في الرواية، سعاد أخت الراوي، وهذه الشخصية تحمل بُعدين: الأول يقدمه الكاتب كنموذج للفتاة التقليدية الخاضعة تماماً لسلطة القوانين الاجتماعية والدينية، أما البعد الثاني فهو احتمال وجود علاقة سرية مجهولة في حياة سعاد لا يعلم بها الراوي، إذ يلمح خلال السرد عن إعجابها بأحد الأشخاص لكنه لا يخوض في وصف شخصيتها أكثر، ويحصر الإضاءة على الجانب التقليدي البحت في تركيبتها السيكولوجية.
الحدث الأخير في الرواية يختتمه الكاتب أيضاً بظهور امرأة غريبة أتت إلى القرية مع جماعة من المهجرين، امرأة لافتة تثير التساؤلات حولها، وتظل هذه الأسئلة معلقة لأنها مرهونة بواقع الحرب والمعاناة المفروضة على شخوص الرواية.
جدير بالاشارة أن “اعتدال الخريف”، صدرت ترجمتها بالفرنسية والانجليزية ،الترجمة الفرنسية أنجزها نعوم أبي راشد، وصدرت عن جامعة تولوز (فرنسا)، أما الترجمة الإنجليزية فقامت بها ناي حناوي، وصدرت عن جامعة أركنساس برس (الولايات المتحدة الأميركية).