علاء خالد في شرنقة ” بيت الحرير”

 

 

تُلقي أحداث ثورة يناير 2011 ظلالها العالية على رواية علاء خالد “بيت الحرير” ( دار الشروق،القاهرة ) ضمن شخوص بدت منحوتة داخل نص ينسج تفاصيله المتشابكة في آفاق ثورية وفنية، تحتفي بتقويض الأفكار الجامدة، سواء على مستوى العلاقات الإنسانية الرتيبة، أو على مستوى إعادة طرح رؤى متفاعلة مع الفن والحياة، وحضور الموسيقى، والكتابة، والضوء، والشوق المغالي عند الأبطال جمعيا  لحدوث انعتاق ما من الحياة المألوفة. إنهم ينتظرون الخلاص بشكل أو بآخر، واهمين أن الثورة والحب قادران على منحهما ما ينشدونه.

ينتقل الكاتب  على مدار الرواية ضمن ثلاثة أصوات هي : الراوي العليم، البطل محسن الحكيم وهو كاتب تجاوز الخمسين من عمره ينتصر للثورة من أعماقه، والبطلة دولت شابة عشرينية شكلت الثورة في حياتها تحولا مهما مع كسرها حاجز الخوف، وتخليها عن الحجاب، ودخولها في علاقة جسدية مع مصعب رغم قدومها من أسرة محافظة إلا أنها تنحاز للحظة عبور الأسوار..هناك أيضا شخصيات أخرى مثل وليم صديق محسن المتخصص في أيقونات العصر القبطي  والذي يتجه إلى سلك الرهبنة،بحثا عن الذات العليا، أيضا مصعب الشاب الثوري الذي يعاني من خلل نفسي في تشابك خيالاته عن الثورة، وفي علاقاته العاطفية والجسدية وما فيها من اسقاطات للعلاقة مع الأم.

لا يمكن تناول هذه الرواية وفق تتبع خط سردي واضح يمضي ببناء متسلسل، فقد اعتمد صاحب ” ألم خفيف كريشة طائر تتنقل بهدوء من مكان لآخر”، على التقطيع الزماني والمكاني للسرد. بدت اللغة في النص فيما يتعلق بالتراكيب المتداخلة التي يؤدي أحدها إلى الآخر، إلى جانب تشكيل المقطع السردي المسترسل، حاملة استدعاء لعالم إدوار الخراط تحديدا في رواية “راما والتنين”، من جانب التبئير الانفعالي في تحليل شخصية البطلين” محسن، ودولت”، وتقديم أكثر من وجه عار للحقيقة الواحدة، مع استخدم الكاتب أكثر من صوت داخل المقطع السردي الواحد.

يبدأ الفصل الأول مع عنوان “غرام الأطفال”،مع صوت راو عليم ينحاز لصوت البطل “محسن الحكيم”، الكاتب الكهل المتورط في حب فتاة شابة تدعى  دولت، مفرطة في الحساسية والخيال والكذب أيضا، وما يعذبه في علاقته مع دولت قدرتها على اختلاق أكاذيب بالغة الصدق ” لم يقو يوما على أن يواجهها بأكاذيبها الواضحة..ربما  كانت هذه الأكاذيب سببا في حبه لها، وحبها له…فهذا الجزء الخيالي الذي بنته في شخصيتها هو السبب في حبها له وتعلقها به وهو في هذه السن المتقدمة، ربما كان بالنسبة لها أحد أبطال الحكايات التي تكتبها في خيالها”

لعل زوال الخط الوهمي، بين الخيال، والكذب والحكايات، جزء آخر من التكوين النفسي لدولت بطلة ” بيت الحرير”  يتلامس أيضا مع “راما” بطلة ادوار الخراط، التي تسبب العذابات النفسية المؤلمة للبطل “ميخائيل” الموغل أيضا في تحليل أفعالها ومدى خداعها له من عدمه.

يقف علاء خالد إلى جانب بطله، ليطلق عليه على مدار النص لقب ” كاتبنا”، مما يفسح المجال لوجود مسافة ورؤية عليا للنص بين السارد والمتلقي، أيضا بين البطلين في التلميح لفارق السن بينهما المؤدي بشكل ما لفارق في ردود الأفعال المرتبطة بتفاصيل الواقع اليومي. لنقرأ ” كان كاتبنا حريصا، على أن يسرد حياته أمامها..كانت هناك معلومات كثيرة متناثرة هنا وهناك حول كاتبنا..تسحق كاتبنا بيأسها، وتحطم الجسر بين عمريهما، وتقفز إلى عمره الخمسيني…تعامله بندية جارحة، عندها لا يرى مبررا لوجوده بجانبها. ينسحب ويتضاءل حجمه تماما، ويتكور داخل شرنقته الذاتية.” يعاني البطل من ألم علاقته مع دولت التي يشبهها بدودة الفراشة، ويعاني أيضا من تشتت نفسي نتاج احساسه بالخيانة لزوجته.

 

الحب والثورة

تمضي قصة الحب جنبا إلى جنب مع أحداث الثورة وتفاعلاتها. الحب والثورة هنا ينسجان الشرنقة التي تغزل حياة البطلين، منهما وحولهما. لكن هذه الشرنقة تُشكل جزءً من أضلاع المثلث الذي تقوم عليه الرواية. في مقابل القاعدة الرئيسة التي تقوم عليها حياة البطل الشخصية، ماضيه، حاضره، كتابته، وعلاقته مع زوجته سناء، التي تعمل مصورة، ولا يبدو حضورها واضحا في النص إلا من خلال ما يسرده محسن عنها.

يترك الكاتب مساحة سردية كافية لدولت لسرد حكايتها، غير أن صوت دولت وحكاياتها عن أسرتها وعالمها ومدونتها “وادي المستضعفين”، وعلاقتها الجسدية مع مصعب، ثم علاقتها مع محسن، كل هذا  يبدو انعكاسا لصوت محسن الحكيم الذي يطغى حضوره على خصوصية الصوت السردي النثوي، إلى جانب الذهن التحليلي الواعي بتحليل الثورة ونتائجها أكثر من اندماجها مع الحدث وهذا لا يتحقق لمن يخوض غمار الحروب والثورات إلا بعد زمن طويل حين يتمكن من استيعاب نتيجة ما حصل. مما يجعل قارئ “بيت الحرير” قادرا على الدخول إلى تأويلات الأحداث، وتأويلات العلاقة بين البطلين أكثر من العلاقة نفسها. مثلا يمنح البطل تفسيرا لإخفاء دولت حقيقة وجود أخت توأم لها بأن صدفة وجود التوأم وتكرارها تشير إلى مجتمع يعيش نصفه في حالة فقدٍ ورغبة في استعادة نصفه الآخر. أما البطلة فتعطي تأويلاتها لحالات الكذب واخفاء الحقائق قائلة: “تحولتُ إلى ماكينة كذب يومي في كل شيء، صغت حياتين الحدود بينهما شفافة، ربما رغبة الانتقام من أبي دفعتني لهذا الإزدواج، الانتقام من أبي ومن موت أمي المبكر.”

حضور حالات التأويل للأحداث والعلاقات تحضر على مدار النص، ومع جميع الأبطال، كأن نرى الراوي العليم الذي يتشابه صوته كثيرا مع صوت محسن يحكي عن مُصعب قائلا : ” كان هناك جانب طفولي في رغبة مصعب المستعرة تجاه المرأة وشغفه الشديد بالجنس…اللذة كانت خليطا من تعلق وخوف وحاجة الطفل الذي بداخله. اكتسبت أي علاقة حب يدخل فيها مصعب هذه النكهة الطفولية، وربما هذا ما جعل العلاقات تنجح في بداياتها”

اختار علاء خالد نهاية مفتوحة لروايته، تنسجم مع علاقة الحب التي تشبه خيوط الحرير في شرنقة الفراشة، باطنية وهشة ومدهشة في آن واحد. تطلب دولت من محسن أن يحميها وأن تختبئ في مكان ما، يأخذها إلى بازار صديقه وليم ويتركها تنام ليلتها هناك، حين يعود في اليوم الثاني صباحا يجدها متكورة على نفسها في وضع جنيني وهي عارية تماما، دون أن تمس الطعام الذي أحضره لها في اليوم السابق لأن  دودة الحرير لا تأكل أثناء فترة بلوغها القصيرة الأمد، هذا الوصف يرد مسبقا في الفصل الذي يحمل عنوان ” بيت الحرير” حين يقول : ” يخرج الحرير من فم دولت، تدور به دورة كاملة حول جسدها المتكور في وضع الجنين، خيط رفيع واهن، يتلوه خيط رفيع آخر ثم آخر.”

يمكن القول أن أبطال الرواية  يخرجون  من فقاعة أحلامهم ورؤيتهم المنتظرة  لواقع آخر، ليجدوا حولهم  حقائق أكثر انكسارا تجبرهم على العودة لنقطة البداية، وهذا ما لم يقدروا  على استيعابه وتقبله، لذا يمضي كل منهم في مسار مختلف، فلا تتقاطع المسارات بين أي من الأبطال. يمضي كل منهم في طريقه محتضنا انكساراته وحيدا.

  د.لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى