هبة بسيوني في قلب الوحدة

 

 

في البداية عند التوقف أمام عنوان المتتالية القصصية للكاتبة الشابة هبة بسيوني ” تماس مع الوحدة” يحضر التساؤل حول اختيار مفردة ” تماس” لتتجاور مع الوحدة؛ فالتماس في اللغة هو : نُقْطَةُ الْمُلامَسَةِ و زَاوِيَتها، لذا يقال تماس كهربائي أي اتِّصال بين موصلين يسمح بمرور التيَّار، ويقال ايضا تماسَّ الجسمان : تلامسا ، لمس أحدُهما الآخرَ، لكن في حال وجود الآخر فإن الوحدة تنتفي، حضور الوحدة في عنوان المتتالية تُغيب الآخر لصالحها لتكون بديلا  عنه.

“واذا كان لا بد من التوقف عند دلالة العنوان، فما استدعى أيضا التأمل هو الإهداء الذي اختارته الكاتبة قائلة :

للمزيكا..للأرواح النقية التي قابلت ما يكفي من الأرواح الخبيثة ولم تدنس

ولكل شخص مضطرب جعلني أحكي عنه”

ينحصر الاهداء بين ثلاثة أطراف هي : المزيكا، الأرواح النقية، والمضطربين من البشر الذي تقاطعت معهم الكاتبة في لحظات ودفعها هذا التقاطع للكاتبة عنهم.

يمكن القول أن قصص المجموعة في محورها الأساسي تتعلق بمجموعة من الكيانات البشرية المعذبة في أسر معاناة داخلية مفروضة عليها فرضا وفق ناموس اجتماعي يمتثل له الجميع، إلا من اختار مسارا آخر سواء  بالسر أو عبر تحدي  العرف الاجتماعي السائد. فالأبطال يرزحون تحت ثقل  ألم وجوع عاطفي وجسدي يجعلهم يتخبطون في دوائر  كثيرة تبدأ صغيرة لكنها تتسع وتتسع مكملة طريقها في المحور عينه حيث التماس يبدو حلوله أكثر  وضوحا   مع الخوف، مع الحرمان، مع الاحتياج، والإذعان.

تتكون المجموعة من ست وعشرين قصة، ويمكن أن نقسم عناوين القصص بين مجموعتين الأولى تتكون من مفردة واحدة تتنوع بين حالة أو شيء مثل  العناوين التالية :” وشيش” ” كاونتر” ” دندنات” جلجلة” ” كونترباص”، أما باقي القصص فتحضر الصيغة العددية في العنوان مثل :  ” ضغتتان” ” سبع طرقات للفهم” ” عشرة خطوط” ” ثلاث طرق لاراقة الدماء” عشرون إبرة لجعلها ترحل” ” عشرة جنيهات لها” ” احدى عشر كرسيا احتياطيا”، وحضرت صيغة الجمع مع تغييب العدد في عناوين اخرى مثل ” طرق للتفكير بها” ” عدة زيارات له”.

إن اختيار هذه الصيغ للعناوين، يوحي بالتعدد ظاهرا، والتماثل ضمنا؛ حيث تكرار فكرة الحضور العددي مع كل قصة يوازيه تماثل في الحالة، وكأن الكاتبة تؤكد أن أبطالها كلما أعادوا صياغة تجربتهم للأمر نفسه من جديد، كلما أصابهم العطب، وكما لو أن ثمة استمتاع في سماع نغمة الهزيمة مرة بعد أخرى، واستعذاب طعم مر صار أليفا لهم.

في القصة الأولى ” سبع طبقات” تبدو البطلة متفرجة على العالم من بعيد، مرة  وهي تتمنى أن تتوارى خلف طبقات الفستان الجميل، ومرة أخرى خلف شاشة الكمبيوتر وهي تجري محادثة الكترونية مع شخص غريب وبعيد عن واقعها ومجتمعها، لكنه يطرح عليها أسئلة خاصة وافتراضات تجعلها في شك من تفاصيل العالم حولها، ثم تكتمل دائرة الشك مع التساؤل عن فكرة السعادة، تحديدا عن فكرة ارتباط الزواج بالسعادة  تقول : ” إذا كان الزواج والسعادة مرتبطين فلماذا تجد السيدات بعده بدينات حزينات، ولماذا تبكي أمها ليلا؟”

مثل هذا النوع من الأسئلة يحضر في أكثر من قصة، حيث الشك في الثوابت الاجتماعية التي يعمل الآخرون على تثبيتها في الأذهان عرضة للخلخلة بوضوح لا يسمح بالشك، فالبنت الشابة ومن قبل انتقالها لمرحلة أخرى من حياتها تراقب العالم من خلال عدسة ضيقة، تتحرك حول أفراد الأسرة، الأم التي هي نموذج مكرر لمعظم الأمهات اللواتي يطمحن بزواج بناتهن كحل مثالي للسعادة، هن يعرفن أن هذا كذب لكنهن متماهيات بخفة مع المجتمع، أما الأخ فهو نموذج آخر من النماذج المكررة الذي ينال مساحة من الحرية من منطلق وجوده الذكوري فقط. هذا نجده  في قصة ” وطرق للفهم” مع تعمد الكاتبة وضع حرف ” الواو” وكما لو أنه يربط ما بين عنوان القصة الأولى والقصة الثانية، ليكون ” سبع طبقات وطرق للفهم”، فالطبقات التي ترمز للفستان، حملت دلالة الطبقة النفسية في تبدل أحوال الأبطال في رؤيتهم للحياة، حيث البطلة لم تعد ” فتاة بعد أن قبلت بآخر شخص تقدم لخطبتها”، الساردة في القصة تعود لتحكي عن ايف البنت التي شاهدنا حكايتها في القصة الأولى، ايف الجارة التي تذكر البطلة بنفسها قبل أن تأخذ قرار الزواج من أجل الزواج فقط،اختيار الارتباط بميثاق يرضى عنه المجتمع ويتركها في تماس مع الوحدة لأنها عاجزة عن فهم الرجل الذي تعيش معه.

في قصة ” وثلاثة عشر دقيقة للانتظار” ، تنقل الكاتبة وجهة القص نحو بطل مهزوم،محام ظن في البداية أن مهنته الدفاع عن الحقوق ثم اكتشف وهم قناعته، هذا الكشف يبدو سابقا لخسارته للفتاة التي أحبها، وأيضا لعلاقته مع جسده حيث تختتم القصة بعبارة ” من يقولون أن عدم حلاقة الذقن دليلا على الاكتئاب محقون تماما”، ملامح هذا الرجل نبصرها أيضا في قصة ” كاونتر”، وقصة ” عشرة جنيهات لها”.

يبدو التصاعد الحدثي في الصدام مع المجتمع حاضرا بوضوح  في قصة ” وضغطتان”، هذا التصاعد الذي يمور في العالم الداخلي للأبطال ويتخذ سلوكا يتراوح ما بين الرغبة في التحرر والكتمان. البطلة هنا تعاني  أكثر من مأزق،  علاقة جسدية مضطربة، مع زوج عاجز عن الانجاب، وعاجز عن الحب أيضا ، المجتمع  من قبل اعتبرها ” وش نحس” لأنها تطفش من تعرفه من الذكور

البطلة  تعترف بسلاسة  أن أحلامها بسيطة وهي أولاد وبيت ووسيلتها الوحيدة لتحقيق الأحلام هو زوج يوفر لها الشكل الاجتماعي اللائق. لكن هذا لم يتحقق. تنتقل القصة بين أكثر من صورة :

– المشهد الأول  وجود رجل معها لا يتم التعريف عن هويته، لكنها تذكر احساسها نحوه بأن محاولاته المستميتة لا تحرك داخلها أي شيئ

– مشهد البطلة في حوار مع أمها وهي تقترح عليها أن تقوم باللجوء للتلقيح الصناعي، ورفض الأم القاطع

– في عيادة الطبيب والحوار المنسجم بينها وبين الطبيب ثم التلميح لعلاقة سرية.

هذه البطلة، هي التي نراها أيضا في قصة ” وثلاث طرق لإراقة الدماء” ونعرف اسمها ” هالة”، إنها تشكو من عين المعاناة في عدم الانجاب، في الصدام مع الزواج، وفي توتر العلاقة مع المجتمع. ولا نعرف إذا كانت هذه هي ذات البطلة في قصة ” عبد واحد”، المرأة الممتلئة حيوية والتواقة للحياة.

تتشابه النماذج التي تقدمها هبة بسيوني، وتلتقي جميعها في حكاياتها المتتالية وتبادل أدوارها عند غياب الحب الحقيقي الذي يؤلف ارتباطا وثيقا بين اثنين، هذا الحب الذي يظهر في قصة ” حبل مشدود” يحمل سمة الضبابية وغموض الغد، إنه حب مرفوض من أسرة الحبيب، لذا  سيكون التحدي مع المجتمع مع اصرار الحبيبين البقاء معا.

لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى