بشرى خلفان تروي التاريخ العماني في ” الباغ”

 

 

تبدو الطفرة التي عرفتها الرواية الخليجية عموما، كاشفة لكثير من الوقائع التاريخية والاجتماعية في منطقة ظل التراث الشعري غالبا على النتاج الأدبي لكتابها أكثر من أي نوع آخر، لذا ظلت قليلة تلك المرويات السردية التي تتعلق بالإنسان وعالمه اليومي بكل تفاصيله الحميمية والخاصة. لكن الحضور الروائي تكثف في السنوات الأخيرة مع ظهور مجموعة من الأعمال الروائية التي قدمت تأملها في الماضي والحاضر من وجهة نظر إبداعية شهدت تحولات سريعة، سواء مع ظهور النفط وما تلا ذلك من نهضة عمرانية وثقافية ملموسة لمنطقة الخليج العربي ككل، التي تمتد على مساحة جغرافية شاسعة ومتشابهة إلى حد ما في الظروف السياسية والاجتماعية والحضارية.

تمضي الرواية العمانية في هذا الطريق أيضا، مع ظهور أسماء روائية برعت في تجسيد الواقع العماني بكل خصوصيته، وتقاطعاته المشتركة سواء مع الدول المجاورة أو الواقع العربي أيضا.

من خلال رواية “الباغ”- أي البستان الذي فيه بيت باللغة الفارسية- تنسج الكاتبة العمانية بشرى خلفان حكاياتها بزخم شديد لتقدم تاريخ عُمان، منذ حقبة الأربعينات في القرن العشرين، وصولا إلى منتصف السبعينات، وما ماج في تلك المرحلة من أحداث على مستوى الواقع العربي ككل، ومدى تأثير المركز على الأطراف، انتشار الأيديولوجيات الكبرى الشيوعية والقومية، المد الناصري، ثم نكسة 1967.

يتورط قارئ “الباغ” مع الأبطال منذ السطور الأولى ويردد معهم: “يا نوصل رباعة، يا يشلنا الوادي رباعة”، أي نعيش سويا أو نموت سويا. هناك راشد وأخته ريا اللذان يغادران قريتهما “السرائر” على ظهر ناقة في وقت الفيضان، بسبب ظلم أقربائهما، يمضيان معا راشد بقوته وشدة بأسه، وريا الفتاة الشابة الجميلة خلف ظهره يربط بينهما حبل من الليف مخافة السقوط، ريا بدعائها وابتهالاتها التي تعلمتها من أبيها تقرأ الآيات المنجيات وتتوسل الدعاء بأسماء الله الحسنى كي يصلا إلى مسقط بسلامة. انطلاقا من هذا الحدث يبدأ المصير التراجيدي للأبطال، مصير لا يمكن التنبؤ به أو بتبعاته، حيث عقبات البدايات لا تكشف عما سيؤول إليه الغد؛ لكن ظل الحزن والغربة يخيمان على السرد الحافل بالأسئلة القدرية عن الاغتراب والزمن عن الظلم، عن الحب غير المشروط الذي يقدمه البعض فداء لحياة أناس آخرين.

 

بيت الوادي

يبدو النسيج الشخصي والحكائي لأبطال “الباغ” مألوفا بالنسبة للقارئ، إنهم أناس من لحم ودم، يكادوا أن يكونوا مرئين في كل سلوكهم واختياراتهم التي تأتي منسجمة جدا مع بنيانهم النفسي والاجتماعي. في مسقط يتعرف راشد إلى رجل يلقب “بالعود” أي السيد يستقبله في بيته هو وأخته، وتنتقل ريا للإقامة في جناح النساء مع “العودة” هناك تقرأ القرآن بصوت خفيض تميز العودة عذوبته فيروق لها سماع تلاوة ريا التي دخلت قلبها الذي ما تعود فتح بابه للعابرين. أما راشد فيعمل حمالا في الميناء، يتعلم القراءة والكتابة على يد صديقه “علي” بعد أن كان يتحسر على جهله عاتبا على أبيه الذي خص ريا بعلومه ومعارفه، لكن مصير راشد يتغير تماما بعد مشاجرة مع عمال الميناء الذين سخروا منه وتقدموا بشكوى ضده حيث يتم استدعاؤه “للبرزة” للحكم فيما الحدث.

يتغير مصير راشد حين يصبح عسكريا في حامية مسقط، يلبس القميص والبنطال الكاكي بدلا من الدشداشة، يتعلم اللغة البلوشية من رفاقه العسكر ويكتسب خبرات ومعارف في القتال ما كان سيعرفها قط لو بقي في قريته، كل هذا سيؤدي به إلى تحولات كبيرة بخلاف ما كان عليه، هو الشاب الهارب من ظلم عمه الذي استولى على مشيخة أبيه، عمل حمالا في الميناء، ثم صار عسكريا، ليصبح فيما بعد ضابطا على صدره النياشين، يقاتل الثوار ويطاردهم في جبال ظفار.

هذه التحولات الحياتية الكبرى لا تطال ريا المجذوبة إلى المعرفة فقط غير المكترثة بالمال، تتزوج من علي صديق راشد، وتنجب منه ابنها الوحيد زاهر، تظل تتردد على بيت الوادي الذي احتضنها أول وصولها إلى مسقط، تتلو القرآن على مسامع العودة وتعلم الفتيات الصغار حفظ القرآن، ريا تصير معلمة تدخل البيوت فتنير قلوب فتياتها بالمعرفة، في المقابل تعلم العودة ريا كل ما تعلمته على مدار سنوات حياتها الطويلة، من خبرات طبية وعشبية تداوي فيها المريض والمحموم والمصاب. عالم ريا هو عالم النساء الصغير في سنوات الخمسينات والستينات، حيث البيت والكيان الأسري هو مركز الكون بالنسبة لمعظم النساء. إن هذا الواقع الخاص بالمرأة العمانية والذي تعمدت الكاتبة كشف كيانه الداخلي في كل تفاصيله يتقاطع إلى حد كبير مع وضع المرأة في بلدان عربية أخرى خاصة في المناطق والبلدات البعيدة عن المدن والعواصم الكبرى.

 

رموز صغيرة

تضع بشرى خلفان في سردها رموزا صغيرة ينبغي على القارئ الانتباه لها لأنها لا تأتي مجانية أبدا، مثل رؤية راشد في بداية عمله العسكري لقلعة “الجلالي” المستخدمة كسجن، ثم تأمل علم السلطان والعلم البريطاني يرفرفان في أعلاها، ومونولوجه الداخلي بأن بينه وبين الجلالي مسافة آمنة تبعده عن رعب ذاكرتها وحكاياتها، حكايات الذين دخلوا ولم يخرجوا منه أبدا، أو الذين خرجوا بأرواح وأجساد مشوهة. لكن سوف يدور الزمن بعد عشرين عاما أو أكثر عند الثلث الأخير من الرواية، وبعد أن يصبح راشد ضابطا كبيرا يحقق مع ابن أخته زاهر الذي انضم إلى ثورة ظفار، وتم حبسه هو ورفاقه في قلعة الجلالي مع خطوات القضاء على الثورة. تحفل الرواية بمثل هذه الرموز، كما صرة نقود راشد من بيع الناقة لحظة وصولهما مسقط التي تدفنها ريا تحت شجرة الدار وترفض لمسها، بل تخفيها عن زوجها علي، حتى اللحظة التي يحفر فيها زاهر تحت الشجرة ويجد المال، هذه الصرة تدور عليها الدوائر لحظة أن تحملها ريا وتذهب فيها إلى بيت أخيها راشد وتطلب منه أن يأخذها ليقدمها فدية عن حياة ابنها المسجون. لنقرأ: “أخرجت من تحت عباءتها كيس القماش، مدت يدها إليه، دموعها جمرات تهطل، تكسر صوتها في الرجاء، هذه قروش بنت الخواضة عطيتني إياهن وقلت ضميهن، تتذكر، خذهن.. خذهن فدية عنه، مستجيرة بك أخوي، قول حالحكومة هذه فدية دمه”.

يبدو الحوار في هذا الجزء من الرواية من أكثر الحوارات زخما وتأثيرا، الأم ريا تطالب أخاها الضابط الكبير أن ينقذ ابنها الوحيد المتهم بأنه شيوعي ويقاتل ضد السلطان، فيما الأخ يحاول التملص من نظرات عينيها رغم وعده الفاتر بالمساعدة. استعانت الكاتبة بكثير من الوصف الخارجي البدني للأبطال كي تعكس باطنهم كأن يأتي الكلام على لسان ريا في مونولوج داخلي تصف هيئة راشد قائلة: “كم كبرت يا أخي وكم تغيرت، زادت سمرتك، وغارت عيناك وغلظت شفتاك، ما اكتسبت طولا ولا لحما لكنك تبدو أضخم في ملابسك العسكرية، وكأن ذراعك بألف ذراع ورأسك بألف رأس”.

تشغل انعكاسات الحروب والثورات مساحة مهمة في السياق السردي ككل بدءا من التحاق راشد بالعسكرية، وقتاله القبائل دفاعا عن السلطان سعيد، وانتهاء بالمشاهد الأخيرة والقضاء على ثورة ظفار عام 1972. تعكس “الباغ” أثر الأفكار السياسية الكبرى على حياة البشر البسطاء، هناك نصيب الحزن الكبير الذي تناله ريا على ابنها زاهر، لأن مصيره تحول من طالب غادر مسقط إلى الكويت ليكمل تعليمه إلى مقاتل يتدرب على استخدام السلاح في العراق ولبنان وسوريا استعدادا للثورة.

إن الخصوصية التاريخية والحكائية في “الباغ” لم تبعد النص عن التقاطعات الوجودية الكبرى، في الحروب والثورات، في الإحساس بظلم ذوي القربى، وفي غدر الزمن وتحولاته، ورغم فيض الرواية بالتعاطف الإنساني منذ الصفحات الأولى مع إيواء العود لراشد وأخته، وبالمحبة المتبادلة بين الشخصيات النسائية في الرواية إلا أن الحب الكبير لم ينقذ الأبطال، ريا بكل عاطفتها القوية نحو أخيها راشد الذي يجمعها به ما هو أكثر من الدم كما تقول لم تتمكن من حمايته من إغواء بريق السلطة، ريا أيضا وحنانها الوله نحو زاهر إلا أنها لم تبعده عن مصيره المحتوم.

تعتبر مدينة مسقط المسرح الرئيسي للأحداث، مع وصف موجز لا يخل بالسرد للأماكن والعادات والتقاليد، أيضا التنوع العرقي، حيث يوجد القادم من دول مجاورة في الخليج والقادم من الهند وباكستان وبلوشستان.

يمسك دفة السرد راو عليم على مدار الرواية، استعانت الكاتبة بالتقسيم الرقمي للوحدات السردية التي بلغت واحد وثلاثين وحدة؛ تتسلسل في تدرج حكائي متماسك ومثير يستخدم تقنية “الفلاش باك” في بعض المقاطع من دون أن يؤثر على اللحظة الحاضرة عبر لغة عذبة هادئة تستعين باللهجة العمانية المحكية في بعض الحوارات التي جاءت منسجمة جدا مع السياق العام للسرد بما تضفيه من خصوصية ومحلية للرواية، كما أنها تختم الرواية بالجملة التي ترد في الصفحات الأولى على لسان راشد حين يخوض في الماء “يا نوصل رباعة، يا يشلنا الوادي رباعة”، لكن هذه المرة تقولها ريا بعد أن تفقد ولدها في غياهب السجون. ويمكن القول إن هذه الجملة هي التيمة الأساسية التي جمعت بين راشد وريا.

الجدير بالذكر أن “الباغ” – دار مسعى- هي الرواية الأولى لبشرى خلفان التي صدر لها عدة مجموعات قصصية منها “صائد الفراشات الحزين”، “حبيب رمان”، “رفرفة”، كما صدر لها “غبار” نص مفتوح، و”مظلة الحب والضحك” مجموعة نصوص.

لنا عبد الرحمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى