“إرادة الكتابة” بين وهم الصورة وخطر الحقيقة

 

تخوض الباحثة بلقيس الكركي في «إرادة الكتابة» (المؤسسة العربية للدراسات – بيروت) تجربة بحثية شائكة ‏ومغايرة للمألوف، تبدأها بعبارة هسيودس “في البدء كانت الفوضى”

وانطلاقاً من هذه العبارة تطرح ‏أسئلتها الغائرة في عمق فعل «الكتابة» واستمراره، وسط “عالم رتيب من الفوضى، وآخر مشتهى من ‏الإيقاع. صور مرتجلة وصور مؤلفة”.‏

الآخرون يقتحمون حياتنا ويرصدونها من دون استئذان، فيغدو العالم مسرحًا ونغدو نحن ممثلين على ‏خشبته كلما ساورنا إحساس بالمراقبة. من هذا المنطلق تجد الكاتبة أننا نعيش في عالم متناهي الفوضى، لا ‏منطق يحكمه في حين أن المنطق موجود في الفن، في الموسيقى، والرقص، والشعر، من هنا تأتي حاجتنا ‏الى الفن بسبب «فوضى العالم… لغياب النص إذاً فائدة، لولا هذا الغياب، لولا فوضى العالم خارج الفن لما ‏احتجنا الأخير حلاً». وانطلاقاً من هذا التحليل نجد مبررًا لافتتاح الكتاب بعبارة “في البدء كانت ‏الفوضى”.‏

ولكن في الوقت نفسه ترى الكاتبة أن غياب النص ضروري أيضًا، إذ لولا هذا الغياب لصارت الحياة ‏رتيبة وخالية من المفاجآت والتوقعات. هذا التحليل يجعلها تتوقف عند دلالة المصادفات والأقدار في ‏الأدب. فتطرح أسئلتها حول تلك الأحداث المصيرية الكبرى في أعمال أدبية حفرت مكانتها في الذاكرة ‏الإنسانية. ومما تتساءل حوله إذا كان السر في «الحب في زمن الكوليرا» هو سلسلة اللحظات المتوترة ‏تلك؛ أم أن المصادفة في رواية فلوبير «التربية العاطفية» هي التي تجعلها أثيرة إلى النفس. ولكن في ‏المقابل، تلك الصدف الموجودة في الأدب لا نعثر عليها في الحياة، ويظل طموحنا أن يكون لنا مصادفات ‏جميلة مثل تلك التي تقع على المسرح، أو في رواية. فالفن الجميل كما يرى ستاندال يذكرنا بتوقنا إلى ‏مثله، إلى الحلم بالسعادة‎.‎

وأمام ثنائية الفوضى والنظام، تصل الباحثة إلى رؤيتها للكائن البشري بأنه «رُمي للعالم مشوهاً وناقصاً ‏شاء أم أبى” ص 25‏

تحلل الكاتبة دلالة الصورة سواء في رؤيتنا الى أنفسنا، أو الى الآخر‎. ‎نحن نسعى إلى المرايا فقط كي نرى ‏كيف الآخرون يرون صورتنا. وفي كثير من الحالات تكون هذه الصورة مفترضة لأنها تنطوي على ما لم ‏نحققه فعليًا، بل على ما نتخيل أنه موجود فينا، وننتظر من الآخرين أن يعاملونا على أساس وجوده. تتناول ‏فكرة وهم الصورة مع رواية «الضحك والنسيان» لميلان كونديرا، إذ ان أزمة البطل ميريك تكمن في ‏رؤيته المنقوصة لصورته الداخلية عن نفسه، وميشيل فوكو قال مرة «لا تسألوني من أنا ولا تطلبوا مني ‏أن أبقى كما أنا‎. ‎اتركوا للشرطة والبيروقراطيين التحقق من أن أوراقنا وفق النظام». وتتابع الباحثة في ‏تقديم الدلائل عن صعوبة رؤية الذات مستندة الى قول أرسطو “إن الوصول لأي معرفة يقينية عن النفس ‏هو من أصعب الأشياء‎.”‎

وتناول الكركي «ثنائيات الحياة»، بين الحياة والكتابة، أي بين الفن والواقع في أعقد التباساته، وفي هذا ‏المعترك يكمن ألم الوجود الخطر. يمتاز هذا الفصل عن الفصل الأول بحضور موضوعي للذات بصيغة ‏‏«المخاطب»، بحيث تحضر ذات الباحثة، ونقف أمام تساؤلات عن غاية الكتابة وجدواها، وعن غاية ‏الحياة الواقعية بما تشمله من تفاصيل في العلاقة مع الآخر؛ ولعلّ الأهم هو التساؤل عن غاية الحرية، ‏تنوعاتها، وجوهها، لتعود إلى فكرة الصورة، وأيضاً فكرة الخيانة، تربط هذه الأفكار بمدلولات الكتابة ‏وتتساءل: « هل من مفرّ من أن يصر الخائن على التبرير حين يجد نفسه بعدما كان مقاومًا ثائرًا شرسًا ‏مخلصًا لأيديولوجيته، يبتغي هدنة أو تعايشًا سلميًا موقتًا مع الأعداء» ص ‏‎200.‎

لعل هذا الفصل يبدو أكثر إيغالاً والتباساً بين الذاتي والموضوعي، بين التأمل الغيبي والنص الثابت، حيث ‏التساؤل عن اليقيني والمحسوم تطرحه الكاتبة بأكثر من أسلوب، وتدخل إليه عبر أكثر من باب. تجري ‏الكاتبة مقارنات بين بلقيس ملكة سبأ، وبين أوديسيوس الذي أسرته كاليبسو لسبع سنين، ثم تتوقف من ‏جديد عند ميلان كونديرا في روايته «الجهل» قائلة: «عوليس وبلقيس‎. ‎كلاهما مثل آرينا بطلة الجهل ‏لكونديرا، تلك المهاجرة من وطنها، بعيداً منه كانت تفكر في الفردوس الذي فقدت. الجحيم الحقيقي هو في ‏المنزلة بين المنزلتين، وسط تنازع الجهات وتزاحم الثنائيات» ص 207‏.‎

تغوص الكاتبة عميقًا في الأساطير متنقلة بين بلقيس، شولميث إنانا عشتار، وأختها آرشيكيغال التي نزلت ‏إلى العالم السفلي. ولا تتوقف في الاستدلال إلى أفكارها بالعودة إلى الأسطورة فقط، بل تتناول أبيات شعر ‏للمتنبي، وقيس بن الملوح، وابن زيدون. يبدو الفصل الثاني محملاً بهواجس عاطفية ضمن التوقف عند ‏مفهوم الحب، واللذة، الحنين، والفراق. وإن كانت الكاتبة تعتبر أن‎ « ‎بلاد الأدب هي بلاد العجائب»، فإنها ‏تنهي الفصل الثاني بأن تشبه نفسها بأنها تجلس مثل «أليس» في الحديقة بعدما ضاع منها باب العجائب، ‏ولكن ظل معها توقها للكتابة‎.‎

في الفصل الأخير من الكتاب «حتمية الاختراع»، يعود سؤال الكتابة إلى الواجهة: «لماذا الكتابة؟ لأسباب ‏محتملة، وربما مخترعة، كالصورة أولاً، والتباس الثنائيات في جحيم جائع أبداً». تواجه الكاتبة ذاتها ‏وتصل إلى خلاصة الرحلة بأنها تريد الكتابة، لكنها تتساءل: «ما معنى أريد‎»

ولعل تتبع فعل الإرادة ومدلولاته طرح في رؤى الكاتبة وقوفًا إلزامياً أمام نظريات حديثة «تسلب الإنسان ‏إرادته الحرة الواعية وتنسب كل شيء إلى تنازع بين قوى النفس المختلفة يكون العقل فيها آلة عمياء»، ‏وعلى مستوى الفكر العربي هي الأفكار التي تقول بالجبرية وأن الإنسان مسير، لا حرّ مخير‎.‎

تعود الكاتبة في هذا الفصل إلى الجزء التحليلي والتفكيكي في رؤيتها لفعل الكتابة، وتحضر مقولات ‏ميشال فوكو في أكثر من موضع. ولعله في العودة إلى عنوان الكتاب «إرادة الكتابة»، فإنه من البديهي أن ‏تتمحور التساؤلات كلها حول هذا الفعل، بيد أن بلقيس الكركي تفرعت منها للبحث في هوية الإنسان ‏ككل، تحديدًا في علاقته مع ذاته، ومع الآخر، مع صورته عن ذاته، وكيف يريد للآخر أن يراها. ينتهي ‏الفصل الأخير بعبارة تنسجم مع البداية: “في البدء كانت الكلمة. الكلمة تخلق الصورة. في المنتهى تبقى ‏الصورة. والحقيقة أبدًا هناك، فقط هناك، رغم كل الاختراع”.‏

  لنا عبدالرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى