وجوه أخرى لفتحي غانم
بعد غياب خمس سنوات متواصلة،استضافت القاهرة فعاليات ملتقى الرواية العربية السادس والذي عقد تحت عنوان “تحولات وجماليات الشكل الروائي”، ( دورة فتحي غانم) بحضور أكثر من مائتي ناقد وروائي عربي وعالمي .
وقد صدر عن الملتقى كتاب تكريمي عن الروائي القدير فتحي غانم حمل عنوان “وجوه أخرى لفتحي غانم ” قام بإعداده وتقديمه الشاعر شعبان يوسف .
والكتاب الذي لم تتجاوز صفحاته 155 صفحة من القطع المتوسط كان جولة خلابة في عالم فتحي غانم.ضم عددا من المحاور:مختارات من النصوصومختارات من الذكريات والبورتريهات . شذرات من السيرة الذاتية ومختارات من ” للفن فقط ” وهي مقالات قصيرة عن عالم الفن والفنانين والسينما والمسرح والغناء .كتب شعبان يوسف مقدمة جذابة للكتاب عنونها بـ ” فتحي غانم ذلك الكنز المجهول “، وتميزت مقدمة يوسف بالكثافة الموجزة لمسيرة هذا الكاتب عبر تقديم بانوراما حياتية وأدبية يتداخل فيها الثقافي مع التاريخي والسياسي والأدبي في تلك المرحلة الزاخمة بالرموز الثقافية الكبرى، أيضا بالأحداث والتحولات السياسية والفكرية، بحيث اشتبكت الصراعات في أكثر من اتجاه، وإن كان هذا لا يظهر بشكل جلي مباشر في يوميات غانم، إلا أن المتأمل بدقة في ما ورد عن حياته يكشف عمق اشتباكه مع وقائع وأشخاص عصره،يتضح هذا فيما قدمه شعبان يوسف من مقتطفات من حوار أجراه الناقد غالي شكري عام 1970 مع فتحي غانم وصدر في كتاب ” مذكرات ثقافة تحتضر”.
غالي شكري قال في مقدمة حواره: “في مخيلتي كان له وجهان، أحدهما لتلك الشخصية الهادئة التي تلوح لي كثيراً فى أسلوبه وتعبيراته وموضوعاته التي تكاد فى همسها أن تصل إلى حدود المونولوج الداخلي، فلم أره يوماً في معركة حادة من معارك الفكر أو الأدب أو السياسة، حتى خلافاته مع الآخرين يكسوها هذا الهدوء الشفاف، ولا تصل إلى مُستوى “الحوار” إلا في القليل النادر، فمعظم صراعاته – إن وجدت – من طرف واحد لا يشتبك إلا مع كل ما هو عام ومُجرد، اشتباكات أقرب ما تكون إلى لغة الاحتجاج المهذب والتحفظ الوقور، وهي لغة تحيطه بسياج قوي سميك يحول بينه وبين التلاحُم المباشر أو الاحتدام العنيف”.
لا يكتفي شعبان يوسف بما ذكره شكري في كلامه عن غانم، بل يعلق عليه بصيغة تحمل اعتراضا أو تساؤلا يقول : ” رغم أن غالي شكري هو أحد الذين كانوا يتابعون الحياة الثقافية والأدبية والفكرية بدأب ودقة ومعرفة كبيرين، لا أعرف ما الذي جعله يكتب ذلك عن فتحي غانم؟ الذي بدأ حياته بشكل أساسي على المعارك والاحتجاجات والصراعات الثقافية والأدبية العنيفة، ولقد نال قسطاً كبيراً من النقد والتقريع من كثيرين، ومنهم غالي نفسه، الذي أرسل إليه رسالة تأنيب وعتاب وتهكم، عام 1958، تعقيباً على مقال كتبه غانم عن سلامة موسى بعد رحيله، وفي هذا المقال كتب غانم مالم يعجب شكري، وكان آنذاك مازال في بداية حياته الأدبية.
معارك غانم
ولعل الممتع في الكتاب هو اكتشاف القارئ لأحداث أدبية تتخذ صفة المعارك الصغرى، صار زمنها بعيدا الآن، لكن من المؤكد أنها تركت في حينها آثارا على أصحابها سواء المعنين بها بشكل مباشر أو الذين انعكست نتائجها عليهم، حيث من البديهي أن معركة أدبية ما في زمن ما، تساهم بشكل أو بآخر في حضور وجوه ثقافية على الساحة، وفي إبعاد وجوه أخرى أيضا.
ومما يتضح في الكتاب أن فتحي غانم دخل في عدة معارك أدبية وفنية لا تخلو من السخونة والفرادة، ولا تبدو أنها حافظت دوما على الإطار الشكلي المهذب الذي يصفه شكري يتحدث غانم عن تلك المعارك:
” عام 1952، في روز اليوسف وفي باب “أدب” هاجمت بفرادة الكاتب المتبدئ: أحمد الصاوي محمد، وعبد الرحمن الخميسي، وهاجمني الخميسي في المصري قائلاً إني “ابن ذوات”! وأكتب قصصاً فاشلة.
عام 1954،كتبت سلسلة مقالات في آخر ساعة بعنوان “طه حسين عقبة ضخمة في طريق القصة القصيرة”، وقد أدخلتني هذه المقالات في معمعة مع فرقة كبيرة من الكُتاب.
عام 1955، هاجمت أسلوب محمود أمين العالم في النقد، وردّ محمود في روز اليوسف بمقال “فتحي غانم والنقد الأسود”، وكان ذلك في باب للنقد بآخر ساعة عنوانه “أدب وقلة أدب”.
عام 1955 – 1956، كتب جملة مُشتركة مع د. رشاد رشدي عن كتاب القصة القصيرة في آخر ساعة، وكتبت عن يوسف السباعي “التلميذ البليد يكتب في فوائد الحديد”! وكتب يوسف السباعي عني وعن رشاد رشدي “أننا – رشدي وفتحي – ثنائي الأدب، الراقصتان ليز و تين”!
عام 1956، هاجمت قصص عبد الحليم عبدالله، الذي رد بمقال في آخر ساعة “فتحي غانم وفرقة ساعة لقلبك”، وفي نفس العام هاجمت أسلوب نعمان عاشور في القصة، كما هاجمت مضمونها، إنها سلسلة طويلة من المعارك التي خضتها، أو تورطت فيها، واضح أنك لم تسمع عنها!”
ويورد شعبان يوسف تحليله لأسلوب غانم في مواقفه الحياتية التي تجمع بين الموقف الأدبي الواضح الذي يتم التعبير عنه في إطار لا يخرج عن انتماء غانم للطبقة الاجتماعية الرفيعة التي ينحدر منها، يقول : التقريع الخفيف الذي قام به غانم تجاه غالي شكري، هو طريقته في المعارك دوماً، فهو لا يهتف ولا يصرخ ولا يصيح، ولم يحاول إثارة أي زوابع حوله، والمتابع لمسيرته، فهو لم يكن منتمياً إلى جماعة أو شلة أو تيار أو اتجاه أيديولوجي ينظر له، وكان المغني الأعظم خارج كل الأسراب السياسية والثقافية”
ولم تكن معارك غانم على المستوى الأدبي والثقافي فقط، بل كانت على المستوى الفني، كتب عشرات المقالات في السينما والمسرح والفن الشعبي والرقص والباليه، وكتب عن الفنانين أنفسهم، وهاجم كثيراً منهم، أو أبدى ملاحظاته الفنية العديدة على أداء البعض منهم.كما دافع غانم عن استقلال الفنون، واستقلال الثقافة عن القرارات السياسية.
يكشف يوسف في مقدمته أيضا أن فتحي غانم حصل على قدر كبير من التهميش والعنت في التهميش، بل ليس التهميش والتجاهل فحسب، بل كذلك تغليظ هذا التهميش الذي وصل إلى حالات من الأذى. ويوضح أيضا وجهة نظره بأن هذه الضريبة يدفعها كل كاتب وفنان وأديب أراد أن يكون مستقلاً. ويقدم دليلا على هذا بما حدث لرواية غانم ” تلك الأيام التي نُشرت في روز اليوسف اعتباراً من 15 إبريل 1963، ولم تصدر إلا في عام 1966 عن المؤسسة نفسها في سلسلة “الكتاب الذهبي”، وتم حذف ما يزيد عن مائة وثلاثين صفحة من الرواية، إنها واقعة مهولة، ولو حدثت في مثل هذه الأيام لقامت الدنيا كلها لتتهم وتشجب وتدين وتحتج، ولكن فتحي غانم لم يتكلم، إيماناً بأن الذي يريد أن يعود للنص الكامل فهو موجود في المجلة نفسها كاملاً.
لقد أعاد كتاب ” وجوه أخرى لفتحي غانم” التذكير بهذا الكاتب الكبير،أعاده إلى الواجهة من جديد ونه الباحثين أن ثمة جهد كبير ينبغي القيام به للكشف عن عوالمه المتشعبة الأوجه سواء في السرد أو الحياة. ويختم شعبان يوسف مقدمته بالقول : من المخجل حقاً أن فتحي غانم تعيش كتاباته كل هذا الاستبعاد والتجاهُل والتهميش، وربما تكون بعض هذه المختارات المجهولة، بقعة ضوء صغيرة على جزء من عالمه الغائب.”
د.لنا عبد الرحمن