لوكليزيو في غابة التناقضات
“في غابة التناقضات” هو عنوان كتاب صغير للوكليزيو- لم يتجاوز المائة صفحة- إلا أنه تمكن في محتواه المكثف من تقديم عالم لوكليزيو بشكل يمنح القارئ إطلالة عميقة على عالمه، تكشف أفكار هذا الكاتب، وموقفه الانساني نحو العالم.
لم يكن الكاتب الفرنسي لوكليزيو معروفا بشكل كاف في الأدب العربي، حتى لحظة فوزه بجائزة نوبل في عام 2008، ومنذ ذلك التاريخ صار اسمه مطروقا في الصحف العربية؛ وفي الترجمات التي سارعت الى نقل أعماله بعد وصول نوبل الى داره. لكن ما يستحق التوقف بشأنه هنا أن هذا الكاتب الفرنسي الذي عُرف عنه انحيازه للكتابة عن المهمشين، واهتمامه بالثقافات المنسية والمجهولة، يُعتبر من الكتاب المنحازين للثقافة العربية، فقد أقام في المغرب مدة من الزمن، وتزوج من امرأة مغربية، وكتب رواية بعنوان ” صحراء” وصفها طاهر بن جلون ” أنها رواية من روايات الجنوب” لما يظهر فيها من انحياز لوكليزيو للصحراء المغربية. أما في روايته “نجمة تائهة” فقد كتب عن معاناة فتاة فلسطينية في إحدى مخيمات اللاجئين.
يمكن وصف لوكليزيو بأنه الرحالة الأبدي، فهو مولع بالسفر، باكتشاف أماكن نائية ليعيش فيها، ويكتب عنها، من نيجيريا الى الصحراء والى أراضي الهنود الحمر.من هنا توجد في نصوصه فضاءات شاسعة وثرية، يتضح فيها العمق الفكري والإنساني لهذا الكاتب الذي تتشابه رواياته مع عوالمه. لقد عايش زمن الحرب العالمية الثانية، فقد ولد عام 1940، ومايزال ” يسمع صراخ لوكليزيو الطفل”، ويعتبر أن الحرب من أهم العوامل التي أثرت على مجرى حياته .
لكن ما الذي قاده الى الكتابة؟
من المهم ايجاد اجابة لهذا السؤال، حين يدور الكلام عن لوكليزيو تحديدا، طفل الترحال والغربة ، طفل الحرب والحرمان والجوع، الذي ظل منصتا للمهمشين، يكتب عنهم وعن عوالمهم في كل جولاته ونصوصه، معتبرا أن انتصاره لهم لا ينفصل في أي حال عن انتصاره للإنسانية ككل، من دون أن يتخذ من كتابته عنهم أي وسيلة لتجعله في واجهة الإعلام أو متحدثا على منصة عالية.
يطرح لوكليزيو هواجسه عن الكتابة عبر سؤاله : ” لماذا نكتب؟”. هذا السؤال المحير والبسيط في آن واحد، يحمل في طياته إجابات شتى من وجه نظره ؛ فهو لا يكتب لأنه يبحث عن متعة في الكتابة، بل على العكس يرى أن الحرب قادته حتما الى تحري الدقة، والى البحث عن الحقيقة عبر الكتابة. لم تكن الحرب كواقع هي الذكرى المهمة والمؤثرة بالنسبة للوكليزيو، بل السنوات التي تلت الحرب؛ حين افتقد أدوات الكتابة والقراءة، يقول:” هناك نقص في الورق، لا توجد ريش كافية..ولعدم وجود كتب أطفال قرأت كتب جدتي، لقد كانت بوابات رائعة لمعرفة العالم”
عاش لوكليزيو سنوات حرية مع أبيه في أفريقيا، وترك هذا أثرا على تكوينه المعرفي، بل انعكس هذا كله فيما بعد على كتابته. فقد كتب حين كان في عمر السابعة كتابه الأول الذي أسماه ” عالم للنقع”. لكنه يرى أن الكتب التي أثرت عليه بشكل كبير هي تلك التي تتعلق بالأسفار، وكذلك النصوص الكبرى للاستكشافات الجغرافية. ولعل أهم ما تضمنته كلمة لوكليزيو في حديثه عن الكتابة هي فكرة ” التناقض” التي يتطرق اليها بعمق، يطرح أسئلة عن الجوع والشبع، عن جوع المهمشين، وعن الكتاب كيف يكون الحصول عليه ترفا في بعض البلدان. يقول : ” انظروا لهذه الشجرة الأخرى في غابة التناقضات، الكاتب يريد لنفسه أن يكون شاهدا، وما هو في غالب الأوقات إلا متلصص بسيط…أدين للغابة أيضا بواحد من أكبر انفعالاتي الأدبية..”. ويصل لوكليزيو الى نتيجة مفادها أن الكتابة امتياز، مرآة حية يستطيع العودة إليها كلما خطر له الاحتماء من المفاجآت المزعجة.
ولعل من أجمل الأفكار التي تضمنتها آراء لوكليزيو هو موقفه من صراع الحضارات، ومن الشرق والغرب، يقول : ” لا أعتقد أنه يوجد ” نحن” و ” الآخرين”، أو العالم الغربي من جهة، ومن الجهة الأخرى نوع من العالم البربري المتربص بأصغر هناتنا. ” وعلى الرغم من تنوع كتابات لوكليزيو بين شعر ورواية، وكتب أسفار، إلا أنه في حواراته يكشف انحيازه للرواية حين يصفها بقوله : ” إنه نوع يستوعب كل شيء، وهذا سبب نجاح الرواية، في المائة سنة الماضية. إنها نوع من الاختصار لمعرفة العالم، وباحتمال كبير حالته الخاصة.”
” في غابة التناقضات”، من ترجمة أمينة الصنهاجي الحسيني، وتقديم هاني الصلوي. وينقسم الكتاب الى قسمين، تضمن القسم الأول كلمة لوكليزيو التي ألقاها بعد فوزه بجائزة نوبل، أما القسم الثاني فقد جمعت فيه المترجمة أربعة حوارات أجريت مع لوكليزيو ونشرت في صحف فرنسية.
في مقدمته للكتاب يقول هاني الصلوي : ” ليس هناك من مدخل أكثر شعرية وواقعية للدخول الى عالم لوكليزيو من التناقض، الكتابة، عدم الثبات، التمرد، الخلط، وهو رغم كل حضوره في اللغات مترجما، وضيفا على مراكز الأبحاث وضيفا شرفيا، هو رغم كل ذلك ما فتئ يحس بعدم التوافق مع كونه كاتبا…إن الاحتفاء بلوكليزيو احتفاء بكاتب يصغي جيدا للآخر، ويعبر عنه، الاحتفاء به هو احتفاء بالحيوية والسرمدية، بالجوع اللانهائي، بعدم الوصول، باللغة البدائية الصافية، بالأساليب المتنوعة، بالمنتمي غير المنتمي، العاق لكل جاهز ومعلب، ورسمي “.
د.لنا عبد الرحمن