متى يتكلم العلم العربية؟

 

 

 

ظل الكثيرون من الناطقين للغة العربية؛ لاسيما العلماء من أبنائها يتوقون إلى أن يروا لغتهم وقد غدت واحدة من بين ما ضمت مفرداتها معاجم العلم التجريبي. لكن هل تصلح لغتنا الجميلة أن تكون لغة علم؟ للإجابة على هذا السوال المحوري لابد للتطرق إلى مضامين مكنونات اللغة وأسباب الحواجز التي تعيقها، ولا شك أن مكنوناتها لا تقف عند حد من مأخذ الجمال والبلاغة والعمق، بل كما يرى د. سامي سويدان في كتابه “في دلالية القصص وشعرية السرد” أنه ما انشغلت أمة من الأمم بلغتها، كما انشغل العرب بلغتهم.

تبدو اللغة العربية جديرة بأن تقارع ثقافات أخرى لكن على الشاطئ الآخر من بحار عز وصالها، إذ هناك مستجدات من مفاهيم وتعريفات ومصطلحات صيغت بلغة الفولاذ، ولم يفلح أهل العربية في ضم مفردات هذه المستجدات من ضرورات لغة العلم إلى صفوفها، وبقيت بعيدة عن احتوائها بين دفتيها وهذا أحد قصور القائمين على أمر اللغة العربية، فضلاً عن أن الهوة بين عالمي التقدم والتكنولوجيا وعالمنا العربي لم تعد هوة بل هي هوة متزايدة مع كل مشرق صبح جديد، وحتى يتمكن العرب من الوقوف على أقدامهم ليس على قدم المساواة، بل على بعد درجة أو درجتين من التقارب، وليس على بعد هذه المسافة السحيقة ستظل لغتنا الحبيبة تقارع الخصوم وحدها في نجوع بعيدة عن شفرات دهاليز اللغة العلمية الحديثة.

ولكي تخطو اللغة العربية هذه المسافات فوق جسور التلاقي والعبور، لا بد من عقد العزم على إيصال لغتنا بأن تصبح لغة علم؛ عبر اتخاذ عدة خطوات أولها أن نتبين الأرض تحت أقدامنا، فالأمر في جوهره ليس رغبة بل ضرورة كضرورات موجبات الحياة، إذ يرجع ذلك إلى الظروف والتحديات التي تواجهها بلدان عالمنا العربي، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي، وهو الأغلب في تعميق مشكلاتنا حتى إن ما يوجد لدينا من مشكلات ومعوقات محلية ما هو سوى انعكاس لتأثرات البعد الخارجي، وإن من أبرز هذه التداعيات التي نرى ونلمس تأثيراتها البعيدة، هي ظاهرة العولمة التي أطبقت علينا في مجالات التجارة العالمية والتكنولوجية والأمن والعلم إلخ، وتبع ذلك تنامي ضخ المصطلحات العلمية في شرايين اللغات الحية فغدت أكثر إلماماً ومواكبة لمستجدات استخدامات العصر ومن أمثلة هذه المستجدات يمكن الإشارة إلى زيادة معدلات سرعة الاتصالات والحاسبات بين نظم التكنولوجيا الحديثة مما يقتضي للاستخدم لغة لها مقدرة مجارات عامل السرعة هذا، وإن هذه التحديات تتطلب تضافر الجهود كي يتم ترسيم خطة قائمة على أساس علمي ذات أبعاد موضوعية؛ وأن توضع الفكرة موضع البحث والتدقيق، مع الأخذ في الحسبان ضرورة العمل أولاً على ترميم فجوات ما تفتقده اللغة العربية من مصطلحات ومفاهيم ورموز، وذلك عبر تطوير أدوات استيعاب لغة المستجدات العلمية عبر تطوير معاجم اللغة العربية، وأن يكون إدخال مصطلحات جديدة يهدف لتحقيق السلاسة وسهولة الاستخدام بحيث لا تحدث صعوبة في تناولها مما يجعلها منفرة ويبعدها عن آلية التعامل.

في كتابه “العلم واللغة متي يتكلم العلم العربية؟” يقدم د. محمود فوزي المناوي، رؤيته للعلاقة بين اللغة العربية والعلم، وأيضاً لأثر الإعلام المرئي على اللغة، ومما يقوله: “ليس من اليسير على الباحث في أي فرع من فروع المعرفة، أن يشير إلى واحد من بحوثه”، ويقول: هذا أفضل ما عملت، بل يترك للقراء والنقاد أن يشيروا ما يشاؤون ويتخيروا ما يرون أنه جدير بالتقدير والتقديم، تبعاً للمعايير النقدية، وأحياناً طبقاً لما يرون أنه الأجدى والأنفع للمجتمع. وأحياناً يكون تبعاً للذوق العام، أو الرأي العام الذي يكون مقياسه: مدى إقبال القراء على عمل بعينه، أو إنتاج دون غيره. وحينئذ يكون الرواج هو المقياس. وفي أحيان أخرى يكون الإعلام عاملاً حاسماً في هذا المجال، من خلال إذاعة الندوات التي يتخللها الثناء على كتاب بعينه أو دراسة بذاتها، وبخاصة إذا حظى عمل ما بحلقة مرئية تليفزيونية؛ يشيد فيها المتحدثون بالمؤلف وكتابه أو بحثه. وهذا العنصر الأخير أصبح من أهم العوامل في هذا المجال، بعد إقبال الجماهير على مشاهدة القنوات الفضائية أكثر من غيرها من وسائل الإعلام والتثقيف”.

ويتابع د. محمود المناوي توضيح أسباب رغبته في وضع هذا الكتاب، قائلاً : لقد طاف كل هذا بخلدي عند إعداد مادة هذا الكتاب، ولم أتوقف كثيراً عند اختيار العنوان، إذ كان يلح عليّ دائماً؛ أمل عزيز، وهو أن تكون لغتنا القومية لغة للعلم، كما كانت في عصور زاهية سابقة، وكان يتسلط عليّ خاطر لا يفارقني، ويأخذ دائماً صيغة سؤال هو: متى يتكلم العلم العربية؟ وبدا أنه العنوان المناسب لمجموعة البحوث والدراسات التي يتضمنها كتابي. ويدعم هذا الاختيار ما يراود كل المحبين في لغتنا العربية في أن تكون وعاءً للعلم الحديث كما كانت وعاءً حافظاً للعلم القديم، وهناك أمر آخر ـوإن كان بصفة شخصيةـ وهو أنني ألقيت بحثاً بهذا العنوان؛ في مؤتمر قومي، بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.

مما تقدم يرى ضرورة مراعاة أن تقدم العربية في إطار موضوعي بحيث يتم إدخال المتغيرات من أدوات العصر حتى يمكن رفد اللغة العربية بمعينات مما فاتها من مضامين لغوية تجعلها تقف على قدم المساواة مع لغات أخرى وتحد من حدة عدم توافق اللغة مع مستجدات ومتطلبات العصر، حتى تتمكن من أن تصبح لغة يتحدثها العلم”.

الجدير بالإشارة أن كتاب “العلم واللغة.. متى يتكلم العلم العربية؟” لمؤلفه الدكتور محمود فوزي المناوي صدر عن مطبوعات الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة “إنسانيات” في طبعة شعبية لمشروع مكتبة الأسرة. كما أن مؤلفه هو الأستاذ الدكتور محمود فوزى المناوي أستاذ أمراض النساء والتوليد بكلية الطب جامعة القاهرة. وعضو مجمع اللغة العربية وعضو المجمع العلمي المصري وأمين عام الجمعية الطبية وحاصل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم 1999 وجائزة مبارك في العلوم الطبية 2008، كما أن له عدداً من الأبحاث والمؤلفات التي تهتم بتعريب العلوم إلى اللغة العربية، وكان أشهرها كتابه “في التعريب والتغريب” الذي أثار جدلاً.

د. لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى