إبراهيم السيد يتقصّى آثارها في « قراءة جديدة في أدبنا المعاصر »
أجاب أرسطو طاليس لما خاطبه تلميذه الإسكندر المقدوني، حينما وصل بجيشه بلاد ما بين النهرين مستفسراً في أمر أقوامها، في رسالته التي بعث بها لأستاذه قائلاً : «لقد وجدت قوماً مبدعين في تصوراتهم، جادين في أعمالهم، وإني خشيتهم، وأريد أن أبيدهم»، فأجابه طاليس: هل سوف تبيد الشجر والورد والظل والهواء والحجر؟ إنها قيمة الأشياء أن بقت سوف تأتي من بعدهم بقوم آخرين لهم ما لقومك الشهود من خصائص.
أدرك طاليس من وراء قرن زمانه البعيد مدى تأثير البيئة في تخليق إبداع الإنسان، وجاء من بعده بعشرات القرون من يقول: صدقت يا طاليس؛ فقد ثبت لنا حقاً أن الإنسان ابن بيئته.
في كتابه «قراءة جديدة في أدبنا المعاصر» الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في القاهرة، يتناول الناقد د.السيد إبراهيم على مساحة 260 صفحة من القطع المتوسط، جملة من الأعمال القصصية والشعرية في أدبنا الحديث في قراءة جديدة يحاول عبرها حماية ذاكرتنا النقدية، التي ظلت أمداً غير يسير تحتفل بمفاهيم ورؤى كانت لها الأولوية والصدارة في كتاباتنا.
ويؤكد المؤلف أن القارئ سيجد بالإضافة إلى ذلك ما يصله بالمفاهيم المختلفة في النقد الحديث وطرائقه في قراءة الأدب.
تقابلات ثمة خيط يمكن أن يتتبعه القارئ في تناول الأعمال الروائية التي عرض لها المؤلف في هذا الكتاب يتمثل في التقابل بين ثقافة الوادي وثقافة الصحراء، وقد ظهر بجلاء عند إبراهيم الكوني في رواية «المجوس» حين يقول -مثلاً – على لسان بعض شخصياته: «قايضنا الحياة نفسها بضياع أبدي اسمه: الحرية، رضعناه في الحليب، وتعلمناه منذ همنا في الصحراء، فما هذه الهجرة الأبدية إن لم تكن هرباً من الأصفاد والأرض والاستقرار والواحات.
إن لم تكن تلك المحاولة الجلية الشجاعة في التخلص من الاستعباد والسعي العنيد إلى الفضاء.
من اختار اللقمة اختار القيد عدو الصحراء، عدو من احترف الهجرة، وأنا أنصحك أن تقبل أهل الواحات في مدينتك إذا أدرت ألا تشقى في تدريب الصحراويين المعاندين على الطاعة وحياة الاستكانة، المنفى قدر الصحراوي الذي رفض كيس الدقيق، والاستنفار عقيدته».
كذلك في رواية «اللص والكلاب»، لنجيب محفوظ تمثلت المشكلة في التقابل بين إرادة الفعل وبين التسليم بالقضاء أو الأمر الواقع، كما ظهر في التقابل بين شخصيتي البطل والشيخ المتعبد، وتمثلت المشكلة على نحوٍ ما فيما أراد توفيق الحكيم أن يتناوله من مسألة القدر وإرادة الإنسان: «لا ينحصر الإنسان داخل وجوده الفردي، فهو ليس وحده في العالم، وإنما تحيط به الطبيعة كما يحيط به كذلك من حوله من البشر، وليست ميوله الفطرية بمنأى عن تأثير ميول أخرى ترجع إلى الظروف الاجتماعية أو البيئة الطبيعية، وهذه الميول الثانوية قد تعضد الميول الفطرية أو قد تكون مناوئة لها، فالمناخ الإقليمي للبلد الذي تحيا فيه أمة ما يترك بصماته بمضي الزمن.
تلك هي الفكرة النظرية التي تحرك منها أحد النقاد الكبار في تاريخ النقد الأدبي، وهو الناقد الفرنسي المشهور (هيبوليت تين ــ HippolytTain) فيما كتبه من دراسات علمية، كالذي فعله في كتابه تاريخ الأدب الإنجليزي الذي كتبه سنة 1864م، حيث كانت الغاية التي تتوخاها دراسة الأدب عنده أن تميط اللثام عن القضايا البيئية في الأدب، وهي القضايا التي جعلها واحدة ضمن ثالوثه.
البيئة والأدب يرى المؤلف أن أهمية دراسة الأدب تكمن في أنه من بين صور المعرفة المختلفة، كالفلسفة والمنطق ويعد أغناها وأوفرها من جهة الإفضاء والبوح بالدوافع التي تحتِّم الاتجاه الذي تسير فيه الحضارات.
وفي النقد العربي الحديث كان للشيخ أمين الخولي احتفاؤه الشديد بالبيئة الإقليمية في درس الأدب العربي، فهو يرى – غير بعيد مما كان يذهب إليه تين – أن لكل بيئة مزاياها وخصائصها التي تنفرد بها بين الأقاليم، وتلك المزايا والخصائص هي التي توجه الحياة الأدبية فيها، وباختلاف هذه المميزات المادية والمعنوية تختلف حياة الإقليم الأدبية، ويختلف نظام سيرها أو تطورها من نشأة وتدرج وتفرع.
لقد قرن أمين الخولي رؤيته تلك بدراسة الأدب دراسة علمية، اعتماداً على ما يقرره العلم التجريبي الذي يتحدث عن «علاقة الكائن ببيئته وأثر تلك البيئة بنوعيها من طبيعية واجتماعية في الحي الذي يعيش فيها ويختص بها، حينما يرصد الفوارق الفاصلة بين البيئات ويدرك أن مصر قد تميزت من ذلك بمميزات واضحة الفصل قوية التأثير في التحديد والتمييز من بحار وصحارى وبمقومات خاصة جعلت هذه البلاد، وحدة مادية بارزة المعالم جلية الخصائص ماثلة الفوارق».
والفكرة التي ينتهي إليها الشيخ أن الأدب العربي ليس شيئاً واحداً فهو يختلف في تذوق كل إقليم له، والنتيجة المحتومة لدراسة البيئة الخاصة للإقليم أن أساليب حسنها من الأدب العربي قد تقبلها ذوق الإقليم دون أساليب، وأن فنوناً أخرى من القول الأدبي شعره ونثره قد راجت دون فنون أخرى من ذلك، ولا شك أن في رؤية الخولي تداخلاً بين إنتاج الأدب وتلقيه، بحيث يظهران شيئاً واحداً.
لقد تحدث نقاد العرب الأقدمون عن تأثير البيئة على الفرد أيضاً، ولكنهم تناولوا ذلك تناولاً مختلفاً، اختلاف النقد التفسيري الذي يطلب لنفسه سنداً علمياً عن النقد المعياري الذي يجنح إلى التفصيل أو الاستحسان والاستهجان.
ينقسم كتاب «قراءة جديدة في أدبنا المعاصر» إلى قسمين: قراءة لنماذج روائية وقصصية والقسم الثاني قراءة في تجارب شعرية، ويسبقهما مقدمة ومدخل يتناول تأثير البيئة على الإبداع والفكر السياسي والرمزالفني. وتناول القسم الاول موضوعات: إبراهيم عبد القادر المازني وقصة توحة، الملك أوديب: توفيق الحكيم بين الفن والأسطورة، اللص والكلاب لنجيب محفوظ، بهاء طاهر بالأمس حلمت بك، المجوس لإبراهيم الكوني، أمين معلوف، مجموعة البحر الرمادي لأحمد الشيخ، طه وادي وكتابة السيرة الذاتية، «شرف الله» لفتحي إمبابي، أمينة زيدان وحدث سرداً، أما في القسم الثاني (الشعر) فتناول «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب و«يوسف الصديق: الشاعر الفارس» لفاروق شوشة، و«طقوس الحركة في السماوات المدارية، الشعر والغموض: المتصوفون الشعراء» لعادل عزت.
د.لنا عبد الرحمن