هجيرة لعور تتبع أصول الغفران في القراءات النقدية

 

ولد الأدب في أحضان الأسطورة منذ بداياته الأولى، وبالتالي كان الأدب أكثر الحقول ارتباطاً بها إبداعاً ونقداً. شبه ليفي شتراوس الأسطورة بالموسيقى، قائلاً: «علينا قراءة الأسطورة وكأننا بهذا القدر أو ذاك نقرأ نص أوركسترا» كما شبهها باللغة على أساس أن العناصر التركيبية للأسطورة هي نفسها الطريقة التركيبية في اللغة.

أما الأسطورة حسب مارسيا ألياد، فإنها تروي تاريخاً مقدساً: «كيف أن شيئاً ما كان قد اتخذ طريق الكينونة والوجود، مع أبطال يجسدون كائنات فوق الطبيعة»؛ في حين يرى فرويد ـ الذي استمد منه ليفي شتراوس أفكاره المتعلقة بمنهجه البنيوي ـ أن الأساطير «ليست إلا تعبيراً عن رغبات لا واعية لا تتوافق مع التجربة الواعية».

وقد سعى النقاد لمحاولة إيجاد منهج يهتم بهذه الظاهرة الأدبية التي تتعامل مع الأسطورة بشتى أنواعها؛ فنتج عن ذلك ما نسميه بمنهج «النقد الأسطوري»، وما منهج النقد الأسطوري «Lamythocritique» إلا واحد من أحدث المناهج النقدية المهتمة بذلك، حيث يلامس النص الأدبي فيبحث بداخله عن تجليات العناصر الأسطورية ويبرز أهم أسسها، ومن ثم يرصد الإشعاع الناتج عن توظيفها في النص الإبداعي، سواء أكان نثراً أم شعراً.

رسالة المعري في كتابها «الغفران في ضوء النقد الأسطوري» للباحثة هجيرة لعور، ترى أن منهج النقد الأسطوري لصاحبه بيير برونيل يعتبر من أحدث المناهج النقدية على الساحة الغربية والعربية معاً، حيث وضعه صاحبه سنة 1992، ويعتمد على ثلاث خطوات إجرائية على التوالي: التجلي – المطاوعة – الإشعاع.

ولأن خزانة الأدب العربي تزخر بتراث ثري فإنه يستحق منا العناء لسبر أغواره وملامسته بمختلف المناهج النقدية المعاصرة كآليات منهج النقد الأسطوري، وذلك لبعثه من جديد ومعاودة التفكير فيه بشكل دائم للكشف عن أبرز ملامحه وسماته، على اعتبار أن هذا الكشف يعيد تشكيل وعي جديد بذواتنا وهويتنا ومستقبلنا.

إن «رسالة الغفران» التي أبدعها المعري (363 ـ 449 هـ) وبإجماع العديد من النقاد والدارسين، تضمنت جماع أجناس مختلفة مثل القصة والمسرحية، وجاءت جواباً على رسالة من أحد أدباء عصره (ابن القارح)، وضع فيها المعري ما تضمنته ذاكرته المفعمة بشتى أنواع المعارف الدقيقة والنادرة ولم تلتزم بأن تكون تعقيباً أو جواباً، بل خاضت أجواء محملة بالرموز الأسطورية، ذات الجذور العربية واليونانية، والهندية.

فتكونت بذلك بنيتها الخاصة أسطورة أدبية بحد ذاتها تحتاج إلى منهج نقدي يكشف عن مسارات رموزها وتوظيفها الأسطوري وخصوصية تشكيلها الجمالي.

تقسم الباحثة الكتاب إلى مدخل وثلاثة فصول وخاتمة. «النقد الأسطوري وأعلامه البارزين» كان عنوان المدخل، حيث حاولت الباحثة تخصيصه للمنهج المتبع في الدراسة، منهج النقد الأسطوري للأسباب التي ذكرتها سابقاً، حيث رأت أنه من الضروري بعد تتبعه وهو في طور الاشتغال على المدونة، وحاولت فيه التطرق إلى بدايات الاهتمام بالنقد الأسطوري، ثم أهم الأعلام الذين تبنوا مثل هذا النقد، وفي الأخير استرسلت في عرض منهج النقد الأسطوري لصاحبه بيير بروينيل بآلياته الثلاث.

حاولت الباحثة في الفصل الأول عرض ماهية الأسطورة الأولية من تعريف لغوي واصطلاحي وتقديم أنماطها وذكر أهم خصائصها، ومحاولة حصر وظائفها، ثم الانتقال إلى علاقة الأسطورة بالأدب والتركيز على الأسطورة الأدبية، وقد رأت أن تخصيص هذا الفصل للأسطورة وحدها ضروري للدراسة؛ لأن مفهوم الأسطورة لا يزال غامضاً للكثيرين، خاصة فيما يتعلق بالأسطورة الأدبية.

وترى الباحثة أنه «من الصعوبة وضع تعريف جامع مانع للأسطورة نظراً لتميزها بخصائص مختلفة باختلاف دارسها والمدرسة التي ينتمي إليها.

ومهما يكن من اختلاف في تعريفات الأسطورة إلا أن العديد من الدارسين، وعلى رأسهم بيير برينال يجمعون على أنها في الآن نفسه سرد للأصول والمعتقدات، وتعليل الديانات، إنها قصة أقل ما قيل عنها مقدسة»(ص 50).

رموز أسطورية أما الرموز وتجلياتها في نص «رسالة الغفران»، فكانت موضوعاً للفصل الثاني، قامت خلاله الباحثة برصد أهم تجليات الرموز الأسطورية داخل نص الرسالة، ثم تتبعت هذه الرموز بعد تصنيفها بآليات المنهج المتبع، وأبرز هذه الرموز ما حصرته في ستة عناوين هي على التوالي: رمز الشجرة ويندرج تحته رمزان هما: الشجرة ذات أنواط وشجرة الحماطة، ثم يليه رمز الشيطان ويندرج تحته رمزان هما: الخيثغور وأبو الهدرش، وأخيراً يأتي رمز الحبة ويندرج تحته رمزان هما: الحية ذات الصفا والحية القارئة.

أما الفصل الثالث: فجاء تحت عنوان «جماليات التوظيف الرمزي في رسالة الغفران»، حيث خلصت فيه إلى أهم جماليات التوظيف الرمزي الأسطوري داخل المدونة، وذلك من خلال تتبع جماليات مطاوعة كل رمز من الرموز الثلاثة، ثم الجماليات التي يختص بها كل رمز، فأدرجت جماليات القالب القصصي الحواري وجماليات الشخصية الحيوانية تحت رمز الحية، بينما أدرجت جماليات القالب القصصي الحواري وجماليات الشخصية الغيبية تحت رمز الشيطان.

في خاتمة البحث حاولت الباحثة الإجابة عن مجمل التساؤلات التي طرحتها في المقدمة.

أما فيما يخص مصادر البحث ومراجعه، فقد اعتمدت على رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، تحقيق عائشة عبد الرحمن، لتكون مدونة الدراسة، أما فيما يخص المنهج فقد اعتمدت أساساً على كتاب النقد الأسطوري لصاحبه بيير برونيل، بالإضافة إلى مخصوص للأستاذ الدكتور عبد المجيد حنون أستاذ الأدب المقارن بجامعة عنابة، وهو عبارة عن محاضرة مقدمة لطلبة الماجستير (تخصص أدب مقارن) يشرح فيها آليات المنهج بالتفصيل.

أما مصادر ومراجع البحث الأخرى، فقد كانت متنوعة، منها القرآن الكريم والكتاب المقدس والمعاجم وموسوعات منها موسوعة الفلكلور والأساطير لشوقي عبد الحكيم، إضافة إلى كتب عربية وأخرى أجنبية (عملت على ترجمة ما هو غير مترجم منها)، ومجموعة من الدراسات الحديثة المنشورة على مواقع مختلفة للإنترنت.

لقد سبقت هذه الدراسة دراسات نقدية جادة تداولت رسالة الغفران، وهذه الدراسة تعتبر أيضاً إضافة جديدة أداتها النقد الأسطوري، الذي يؤطر لميثولوجيا أدبية، سبق إليها المعري.

الكتاب: الغفران في ضوء النقد الأسطوري المؤلف: هجيرة لعور (بنت عمرا) الناشر: الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة عدد الصفحات: 240 صفحة من القطع المتوسط.

د. لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى