البطلة اليمنية زينب في بئر الثورة والحب
تطرح الروايات التي تتناول أحداث ثورات «الربيع العربي» – كما شاعت التسمية – اسئلة عدة حول علاقة الأدب بالواقع، ومدى تماس الكاتب في تسجيل رؤيته للتاريخ من خلال كتابته، أو مدى ابتعاده لسنوات عن كتابة ما عايشه بهدف أن تكون الرؤية أشد عمقاً وموضوعية.
وبين وجهتي النظر، سواء التي تتبنّى الكتابة عن الأحداث في سخونتها أو التي تحبذ التريث، ظهرت في المدن العربية التي عايشت الثورات مجموعة من روايات تصدت مباشرة للكتابة عن الثورات وما تلاها من أحداث، وتكاد تكون معظم هذه الروايات تميل إلى اتخاذ موقف مباشر يبدو فيه الإسقاط الأيديولوجي منتصراً على الجانب الفني للرواية، ولشخصيات الأبطال ومواقفهم الحياتية. «الزمن هو وحده من سيميط اللثام عن غموض الأحداث في اليمن». ربما عبر هذه العبارة التي يقولها أحد الأبطال في رواية «بئر زينب» – دار نوفل – يمكن قراءة هذا العمل الذي حاولت عبره الكاتبة اليمنية ندى شعلان تناول ما يحدث في اليمن من ثورات وحروب، وطرح الأبطال أسئلة عن أسباب الثورة، عن الجوع والفقر والبؤس الذي أدى إليها، والأهم عن العطب الجسدي والنفسي كثمن مدفوع للوطن من أجل قيام الثورة – كما يرى خالد أحد أبطال الرواية – في تبريره لنفسه واقعه الحالي كرجل بُترت ساقه.
البطل في الرواية هو المجتمع اليمني، مجتمع القبيلة الهرمي بكل تشابكاته وعلائقه التاريخية والاجتماعية التي تمنح السطوة نتيجة للمال والنفوذ والعلاقة مع السلطة، وما يتخلّل هذا من وجود للمرأة التي تسعى جاهدة إلى التمرد على النظام الأبوي، لنيل جزء بسيط من حقوقها في التعليم والحياة والحب والفرح.
تبدأ الأحداث في عنبر أحد المستشفيات الحكومية، نشاهد زينب – بطلة الرواية – وهي امرأة في الخمسينات من عمرها تأتي مع ابنتها لترعاها وهي توشك على الولادة. تلتقي زينب مع خالد وهو أحد مصابي الثورة وكان تلميذاً لشقيقها يوسف، الذي ندرك أن له دوراً محركاً في أحداث الرواية، وترك أثراً مهماً في حياة خالد الذي يتحدث عنه بتقدير شديد.
بعد هذا اللقاء المفاجئ بين زينب وخالد يجمعهما حوار طويل تسرد فيه زينب حكايتها الطويلة، قصة حبها للؤي، عذاباتها، وزواجها رغماً عنها من شيخ القرية. ولكن لا يبدو هذا البوح مبرراً كفاية ليوضح السبب في اندفاع زينب لكشف هذه التفاصيل البعيدة، مع شخص تلتقي معه بالصدفة.
استخدمت الكاتبة صوت الراوي العليم عبر سرد متقطّع تتداخل فيه وقائع الثورة وتفاصيلها مع حكاية زينب. عند مطلع معظم الفصول ينتقل السرد إلى الواقع اليمني في نقاشات محمومة بين مرضى عنبر المستشفى عن السبب في الثورة وعن دور القبائل فيها، عن شخصية الرئيس اليمني ومواقفه… تفاصيل كثيرة ونقاشات تبدو نافرة في بنية الرواية الأساسية، التي كما هو مطروح عبر العنوان تتعلق بالبطلة زينب، بحيث يحيلنا عنوان الرواية منذ البدء على اسم زينب، الذي يحمل تاريخياً دلالات عدة. وإذ يتضح تماس الدمج التاريخي في فكرة التصدي فقط، بأن يأتي عنوان الرواية «بئر زينب» من حادثة ترويها البطلة عن تحديها لزوجها الشيخ حين أصرّ على هدم بيت عجوزين وأخذ أرضهما لمنحها للدولة لقاء مال كثير. هنا تظهر زينب أمام الجميع وتتحدّى زوجها بأن تحول دون هدم البئر، ولا ينقذها من القتل حينها إلا الاعتراف بأنها حامل. هكذا تستمد المرأة وجودها وكيانها في الرواية من قدرتها على إنجاب الذرية التي يحلم بها الشيخ الذي حُرم من الولد. فمن هي زينب، هل هي مجرد امرأة حاولت تحدي التقاليد، أم هي رمز لليمن كله بطموحه وانكساره وعجزه ؟ ولعل هذا ما يكشفه قول أحد الأبطال: «البئر تبتلعنا فرادى.. لكن إن اتّحدنا نصبح نحن البئر».
تبدو التفاصيل الإنسانية في الحكاية التي تتعلق بواقع القرية أو القبيلة اليمنية أكثر حميمية، سواء في علاقة الأبطال بعضهم ببعض، أو في علاقتهم بالعالم الخارجي. هذا يمكن تلمسّه بوضوح حتى على مستوى اللغة. في حين تبدو اللغة أكثر مباشرة عند الحديث عن وقائع الثورة، فيما تنعطف قليلاً نحو اللغة الشاعرية عند وصف زينب سواء في علاقتها مع لؤي وحبها له، أو في علاقتها مع أخيها يوسف الذي أرادت الكاتبة أن تحمّله نواة الشخصية الثوريّة، هو الشاب الذي سافر للدراسة في الخارج على رغم مرضه وفقر أسرته وعاد ليجد أخته الوحيدة زينب متزوجة من شيخ البلدة، حيث المقارنة بين زينب وزوجها بالنسبة إلى يوسف تكشف أن زينب المرأة المتعلمة الواعية المفعمة بالمحبة والخير، «أما الشيخ فبؤرة الجهل ومنبع الظلم اللذان يلفّان القرية بظلال قاتمة من البؤس والتعاسة».
ترتبط زينب بعلاقة حب مع لؤي وهو لقيط تربّى في رعاية الشيخ، هذا الحب يجلب لها كل التعاسة حين يكتشف أبوها أمرها في إحدى الليالي التي تلتقي فيها مع لؤي. يفرّ الحبيب ولا يعرف الأب هويّته، ويقع القصاص كله على زينب بإجبارها على الزواج من الشيخ. هذه الحبكة في وجود عشق ممنوع بين ربيب الزوج وزوجة الأب تبدو محوراً أساسياً في النص، لكنّ المراوحات المثالية أيضاً في رسم شخصية زينب، وتخاذل لؤي وضعفه أوهنا من جذوة الصراع المضّطرم في وجود عاشقين يسكنان تحت سقف واحد، وفي الوقت نفسه يخضعان لقانون التقاليد الصارم، وسلطة الخوف، علماً أن الكاتبة اختارت أن تُنهي روايتها بانتصار الحب بعد مرور سنوات طويلة وأحداث كثيرة، لنقرأ: «الحب هو تلك القوة الغامضة التي تمنحنا إيماناً عميقاً ويقيناً راسخاً بمن نحب لا يزعزعهما شيء. لأول مرة منذ زمن طويل ستبتسم زينب من قلبها».
أما خالد المصاب بلوثة الثورة والذي بترت ساقه ويكتب تجربته في كتاب بعنوان «المنسيّون»، فيبدو حضوره رمزياً وحقيقياً في آن واحد، فيعتبر أن معرفته بيوسف فتحت روحه على الثورة، ومعرفته بزينب فتحت قلبه على حقيقة وجود الحب.
من ناحية البناء السردي احتاجت الرواية إلى تكثيفٍ كان سيثري النص وينقذه من الإطناب في الوصف الذي شكل ترهّلاً لم يكن في مصلحة بؤرة الحدث الرئيسة، في الوقت الذي تمكنت الكاتبة ببراعة من تشكيل البناء النفسي للشخصيات سواء بالنسبة إلى الأبطال الرئيسين أو الهامشيين.
د. لنا عبد الرحمن