“باب الحيرة”.. السرد بين خطين متوازيين

 

 

لا يبتعد أسلوب السرد، الذي اختاره الكاتب الأردني يحيي القيسي لروايته “باب الحيرة” عن العنوان الذي يحيل القاريء منذ البداية إلي أمريين أساسيين في نصه أولهما فعل “الدخول” في كلمة باب، ثم كلمة “الحيرة” ، التي يزاوجها مع فعل الدخول إنذاراً للقاريء بالانزلاق إلي متاهة النص التي تسير منذ البداية الأولي بين خطي الواقع والمتخيل، “العقل والجنون” يبدأ الكاتب روايته بعبارة للحلاج تقول: “من لم يقف علي إشاراتنا لم ترشده عباراتنا”، ثم يعقبها بصفحة ونصف من الاستغفار الممتزج بالحكمة الصوفية، التي سيجدها القاريء علي مدار النص، ينتقل الكاتب إلي سرده الواقعي معنوناً البداية بكلمة “كل صباح” ليغوص في وصف تفاصيل حياتيه يومية يقوم بها بطله قيس حوران قائلا: “كنت أسير في شارع “الحبيب بورقيبة باتجاه المدينة العتيقة متجاوزا زحمة المشاه وأبواق السيارات، ورنين المترو، وصليل عجلاته علي القضبان الحديد، ورفرفة العصافير علي الأشجار الكثيفة التي تتوسط الشارع وثرثرة الجالسين في المقاهي والحانات”.

وبين السرد الواقعي والتفاصيل الغيبية يمسك القيسي بيد قارئه عبر عناوين صغيرة متوائمة مع كل فقرة في البناء السردي لروايته لتشكل هذه الفقرات ملتحمة عماد الرواية وبنيانها الداخلي، الذي يرتفع حجراً فوق حجر، لتكون تلك العناوين بمثابة رموز دالة علي الغاية في سعي واضح للتكريس لفكرة النص الرئيسية، وهي “الحيرة” فالكاتب حين يختار العناوين التالية: “ما عدت أدري- لا فكاك إذ – ولكن من أنت حقاً؟ – انتبه لهذياناتك – لا مناص أبداً- أدخلني في التجربة – درت في التجربة” يحيل القارئ  إلي مترادفات لإحساس الحيرة مترادفات علي شكل عناوين تهدف إلي قلب الحقائق وإحالة كل شيء إلي شك، فالحيرة هي وهم بشكل أو بآخره إنها انعدام اليقين في شيء وغياب الثبات أمام أي حدث، والقيسي يري أن العناوين في روايته تؤدي دوراً مهما في السرد وعبر عن ذلك في حوار أجراه للقدس العربي، فقال “العناوين الفرعية عندي جزء أساسي من النص وليست منفصلة عنه، وأحسب أن هذا أمراً جديداً في الكتابة الروائية، فدائماً نجد أن العنوان الفرعي يدل علي أو يوحي بشيء من النص الذي يليه، وهو من هذه الناحية منفصل عنه، وأنا رغبت أن يكون النص سلساً ومتدفقاً ومتوهجاً، ولهذا فإن من يقرأ الرواية سيشعر أنه يستمر في القراء دون أن أضع له أية مطبات أو عوائق حتي لا أفقده متعة الحفاظ علي الخيط السردي، الذي يضمن بقاء المعني في ذهن القاريء”.

 

جمالية السرد

وكما أسبقنا، فإن الكاتب منذ البداية يضع قارئه أمام عتبات خطين سرديين مختلفين ، فالبطل هنا هو “قيس حوران” والمكان مدينة تونس، إذن نحن نقف أمام مكان واقعي وبطل من لحم ودم، لكن جمالية السرد تنطوي علي اعتراف قيس لصديقته هاديا بالرؤي، والخيالات التي يبصرها ويحكي عنها، هو قيس حوران، الذي ولد في زمن الهزائم والانكسارات والعلل والنكسات كان له سبعة أعوام من العمر، حيث قرعت طبول حرب 1967 واحتل ما تبقي من فلسطين ثم سيناء والجولان، هذا ما يصف البطل فيه نفسه في حديثه الواقعي، لكنه في حديثه، الذي يهيج الذكري والشجون ويحيل إلي خط سرد آخر يمزج ما بين المتخيل والنفسي والصوتي أيضاً يقول: “إنني إذ جاءني الوجد وهاجت بي الذكري وتناوشتني الأحزان، وضاقت علي الأرض بما رحبت، أحب أن أصعد جبلا منيعا، فإذا وصلت قمته، رغبت أن أسمع موسيقي هندية لآلة الستار أو قوالي نصرت خان أو سورة مريم بصوت عبدالباسط، وعندها يا هاديا أبدأ بالنشيج، فالبكاء فالنواح بصوت عال تسمعه الخلائق فتبكي معي وعلي، حتي يرق لي الحجر والشجر والطير، وحين تنتهي النوبة أشعر بالهدوء والسكينة والتطهر ويزول من صدري الغم والهم وقهر الزمان، تشكل هاديا الزاهري إحدي الشخصيات الأساسية في الرواية، فهي التي تمثل صوت العقل الذي يصغي لاعترافات قيس، مع أن مساحة شخصية هادياً تبدأ بالتناقص، منذ الثلث الأول من الرواية، لكن الكاتب يختتم الكلام عن شخصية هاديا في الصفحة الأخيرة حين يقول: “قيل إنها من هلوسات قيس ولم توجد قط، ولكن ثمة إشارات إلي أنها تعيش اليوم في تونس العاصمة، تركت التدريس بعد أن تزوجت من شخصية دبلوماسية نافدة وتعمل أحياناً في مجال الإصلاح الاجتماعي”.

أما  الشخصية الثانية التي توازي شخصية هاديا في أهميتها هي شخصية سعيدة القابسي، هي الفتاة الجريئة المتمردة، التي تقوم بتصرفات غير مألوفة تقول عن ذاتها: “تعلمت التدخين وصار إدماناً عندي في لحظات اليأس وكثيراً ما لجأت إلي الخمر، وعادة ما أدخل حانة وحدي لأشرب شيئاً من النبيذ أو البيرة دون أن أحسب لأحد حساباً، وقد يظنني السكاري صيداً سهلاً مثل أي بائعة جسد، لهذا كثيرا ما تعاركت معهم بالسباب، كنت أتساءل لم يحق للرجال أن يمارسوا الحياة كما يرغبون ويحرموننا منها؟”.

لكن سعيدة القابسي، التي يرتبط معها البطل بعلاقة حميمة تبدو علي الرغم من غرابتها أكثر واقعية من هاديا هي التي لا يحيلها الكاتب إلي الوهم بل يختم كلامه عنها بأنها تعيش في باريس، وتدرس الفلسفة في إحدي جامعاتها وتتزوج من صحفي فرنسي ثم ينفصل عنه وتنشط في مجال حقوق الإنسان.

 

مدارات الحيرة

منذ الجزء الثاني من رواية “باب الحيرة”، الذي يفتتحه الكاتب بعنوان “مدارات الحيرة” وبعبارة لبيرغسون تقول “لاشيء يشغلني سوي الحقيقة”، وتتصاعد وتيرة السرد المتوتر منذ البداية يفتتح السرد بفعل افتراضي هو “كأن” حين يعنون القيسي النص بعبارة “كأن الماضي حاضراً”.

منذ هذا الفصل تتزايد التخيلات والرؤي عند البطل، فهو إذ بدأها بالحديث عن المخطط العجيب، الذي عثر عليه في إحدي المكتبات واكتشف فيه عجائب وأسرار، فإن هذا الاكتشاف يبدأ بالتحول إلي هلوسات وهذيانات لا يخفيها أبداً يقول: “أحضرت كمية من البخور، حص لبان، جاوي، حب حرمل، واشعلتها مع بضع شموع، وبدأت اقرأ التعازيم والأوراد سبع مرات، ورسمت الدوائر والأحراف فيها والأرقام، متجاهلاً ذلك النص المتشابك في المخطوط، الذي يبتدأ بما يشبه التحذير: من السهل أن ثلج متاهاتي وتري، ولكني لست ضامناً أن تخرج منها قط”.

هذا التحذير، الذي يأتي علي لسان قيسي يشكل تنبيها لما سيحدث لاحقاً حين يفاجئنا الكاتب في ختام الرواية بأن قيس عاد إلي الأردن وأدخل إلي مستشفي الأمراض النفسية أول الأمر، ثم شفي وتزوج بشكل تقليدي، يعمل معلماً للتاريخ، متقلب الأحوار ويحب التأمل والعزلة، ولا يرغب في الحديث عن ماضيه لأحد.

هكذا يختتم الكاتب حياة بطله ضمن فعل الحيرة أيضاً والتساؤل الغامض عن كل ما جري، إذ من الممكن أن كل ما حدث مع قيس كان مجرد أوهام أو تخيلات حصلت بفعل تساؤلاته الوجودية والفلسفية القائمة، التي لم يعثر لها علي أي إجابة.

تتميز رواية “باب الحيرة” باحتوائها علي أكثر من أسلوب في السرد بالإضافة إلي تكثيف المعلومات وتتاليها بشكل متواتر يمنع عن القاريء الإحساس بالملل، كما يتضح أيضا المزج الذي تعمده الكاتب بين الأقوال المأثورة والحكم والعبارات الفلسفية، حيث تنفتح روايته علي أكثر من تقنية في السرد، وأكثر من حيلة فنية تمزج ما بين فنيات القصة القصيرة والرواية، هذا مع ملاحظة أن الاقتباسات المأخوذة من التصوف لاتحتل مساحة كبيرة من السرد ولا تتجاوز 155 كلمة في الرواية كلها، كما يذكر الكاتب لكنها تكشف علي إطلاعه علي العديد من الكتب والمخطوطات القديمة.

أصدر الكاتب يحيي القيسي قبل روايته “باب الحيرة” مجموعتين قصصيتين بعنوان “الولوج في الزمن الماء” و”رغبات مشروخة”، كما أنجز نحو خمسة وعشرين فيلماً تليفزيونياً توثيقياً عن أبرز الشخصيات الثقافية والفنية الأردنية والأمكنة الجغرافية، ويعمل حالياً في الصحافة المحلية والعربية.

  د. لنا عبدالرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى