نجيب محفوظ في ” ليالي سان إستيفانو “

 

رحل عن عالمنا الكاتب محمد الجمل، غيبه الموت بعد رحلة طويلة في عالم الكتابة، أمضاها مخلصا لمدينته ” الأسكندرية”، نائيا بنفسه عن أي سفر، وعن أي صراعات تفرضها الأوساط الثقافية، فقد اكتفى بمعاركه الواقعية بعد أن خاض معارك عسكرية عديدة هي: العدوان الثلاثي 56، حرب يونيو67، حرب الاستنزاف “67-70″، حرب أكتوبر 73.

محمد الجمل كان يكتب وينشر لقناعته الذاتية بأن لديه ما يقدمه.وعلى مدار حياته الإبداعية كان له انتاج أدبي وفير في القصة القصيرة، نشرت قصصه القصيرة في الصحف والمجلات والدوريات المصرية والعربية، إضافة إلى إنتاجه في مجال المسرح، وفي مجال الرواية، والكتب النقدية. وحصل على جوائز وشهادات تقديرية من جهات ثقافية عديدة، منها جائزة “الرواية” من نادي القصة عن رواية ((أمازيس )) لعام 2003.

 

مع نجيب محفوظ

وكان آخر كتاب نشره هو ” ليالي سان استيفانو” الذي تضمن أحاديثه مع نجيب محفوظ في مقدمة هذا الكتاب، يقول الجمل: “بدأت لقاءاتي اليومية السكندرية مع نجيب محفوظ بداية من عام 1977، وكانت هذه اللقاءات في ثلاثة مواقع، الأولى في كازينو “بترو”، والثانية في كازينو “الشانزليزية”،والثالثة في كازينو “سان إستيفانو”، وجري العرف علي تسمية ندوتي “بترو”و”الشانزليزيه”، باسم ندوة “توفيق الحكيم”، حيث كان هو صاحبها، ويجلس بجواره نجيب محفوظ، وكان الحكيم بحكم طبيعته هو المتحدث شبه الرسمي طوال ساعات الندوة الثلاث، وهكذا لم تتوافر لنا مساحة الوقت الكافية للتوغل في عالم نجيب محفوظ، وعندما توفي الحكيم “1987”، قرر نجيب محفوظ نقل الندوة إلى كازينو “سان إستيفانو”، حيث أصبح اسم الندوة “ندوة نجيب محفوظ”، وتواصلت حواراتي مع نجيب محفوظ دون انقطاع منذ هذا التاريخ”.

ويذكر المؤلف: في بداية عام 1988،كانت لي مع الأستاذ وقفتان مهمتان، الأولى عندما انتهيت من كتابة روايتي عن “حرب أكتوبر”، وطلبت منه أن يكتب تقديما لهذه الرواية، ولم يتردد الأستاذ بنبله المعهود، وجاءت الوقفة الثانية في نهاية نفس العام، عندما قررت أن أرتب محاوراتي مع الأستاذ في شرائط مسجلة، لتصبح شهادة تاريخية موسيقية.

وفي بداية محاوراتي سألت الأستاذ، ما إذا كان يقبل تقسيم الحقبة التي واكبت مسيرته الأدبية إلى ثلاث فترات: ما قبل ثورة يوليو، وحكم عبد الناصر، وحكم السادات، طلب مني أن أضيف عصر مبارك باعتباره فترة رابعة، ثم أخذ يتحدث وكأنه يستعيد قراءة كتاب الذكريات.

وفي سياق الحوارات مع الأستاذ، سألت الأستاذ بشكل مباشر: هل يدخل الظرف السياسي في حساب العملية الإبداعية؟ الظرف السياسي هو الحياة التي يتلاطم معها الأديب، أن تأخذ ما يهمك أولا من الظرف السياسي وغير السياسي، ومع ذلك هناك مع الأدباء من لم يقترب من شواطئ السياسية، وكان أديبا رائعا ومقروء ا على نطاق واسع، هناك مثلا “محمد عبد الحليم عبد الله”، لم تدخل السياسية في حياته ولا شغلت باله، وهو أديب رائع، هناك أديب آخر يهتم بمشاكل المراهقة والحب والزواج والطلاق والتربية، ونجح في اجتذاب آلاف القراء، أنت إذن في بحر بلا نهاية، وكل قارئ يستجيب للموجة التي يجد لها صدي في نفسه.

 

رقابة السادات

ويعلق “الأستاذ” على فترة السادات بقوله: عندما جاء السادات كانت قبضة الرقابة ما تزال في وقتها، ورغم مناداته بالديمقراطية، إلا أن حساسيته لأي انتقاد له كانت شديدة جدا، ولا تقل عن حساسية النظام السابق.

وعندما سألت الأستاذ عن رأيه في الفترة الرابعة “فترة مبارك”، ولم يكن قد مضي عليها سوى سبع أعوام “1981-1988″، أجاب بشكل مقتضب يتناسب مع قصر الفترة وعدم التسرع في الحكم “فترة حكم مبارك”- حتى الآن- تشعرك أنها نتيجة نحو الطريق الصحيح، وجزاؤها مؤجل، وتحتاج لوقت ليظهر أثر جهدها، فهي تبني من الأساس، وتواجه تراكمات سابقة”، ويتناول المؤلف في حديثه مع الأستاذ، تساؤلات كثيرة فيما يخص موضوعات ومجالات متنوعة، وما هو تصوره للرواية التاريخية، باعتباره أحد مبدعيها.

ويتابع محمد الجمل قائلا : في شهر سبتمبر 1988، سرت تلميحات كثيرة في وسائل الإعلام المحلية والخارجية عن قرب الإعلان عن الفائزين بجوائز “نوبل” عن ذاك العام وكانت أول جائزة “نوبل” عربية محتملة هي موضع سؤالي للأستاذ: قال المستشرق الفرنسي “أندريه مايكل” عند زيارته لمصر، إنه يرشحك لجائزة نوبل رسميا، وإن عدم فوزك بها يعتبر فضيحة للقائمين علي هذه الجائزة.

أطلق الأستاذ ضحكته المجلجلة التي استمرت بعض الوقت ثم استعاد هدوئه، وقال بموضوعية رمزية، فضيحة في القاهرة وليس في غيرها، على سبيل الحكمة، عندما نكون في بلد 60% منها أميون، و40% منها لا يوجد فيهم أكثر من 1% ممن يقرأون، فالطبيعي أن يكون أدبنا محليا، ثم نطلب له بعد ذلك العالمية! لا داعي لأن نشغل بالنا بأشياء بعيدة، دعنا ننشغل بما تحت أرجلنا، لا تحلم بقصور وأنت لا تجد في بيتك حصيرة.

ويقول المؤلف: حانت فرصة مناسبة في ندوة “سان إستيفانو” عندما جرى الحديث حول فن الغناء المصري، انتهزت الفرصة لسؤال الأستاذ عن مدى تذوقه للغناء، أبدى سعادته بالسؤال، قال بارتياح: أنا كما تعرف أنتمي لجيل سابق ، من هنا تنقسم إجابتي للسائلين إلى ماضي وحاضر، جيلنا يعتبر “منيرة المهدية” هي سيدة الغناء، ونجمة مدرسة التطريب في الغناء، ثم تغيير الزمن وأصبحت “أم كلثوم” هي سيدة الغناء العربي.

 

لم يقرأ كلمة واحدة

وفي الخاتمة، يتناول المؤلف كلمة “نجيب محفوظ” التي قالها في أول حديث للصحافة، بعد ثلاثة أيام من جريمة الاعتداء عليه في 14 أكتوبر 1994، من شاب أهوج، مغرر به، لم يقرأ كلمة واحدة للأستاذ، قال الأستاذ في حديثه للصحفي “محمد سلماوي”:

“سيعز علي كثيرا أن أرغم على الابتعاد عن الناس، وأن تكون بيني وبينهم حواجز أمنية، إن حياتي كانت دائما بين الناس، ولم أر منهم إلا كل الحب، لماذا تريدونني أن أحرم من دفء المشاعر الإنسانية التي طالما أحاطني بها الناس؟!”.

الكتاب/نجيب محفوظ في “ليالي سان إستيفانو”.

الكاتب/محمد الجمل.

الناشر/وكالة الصحافة العربية 2011.

الصفحات/123 صفحة متوسطة.

د. لنا عبد الرحمن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى